Saturday, August 30, 2008

في علاج حد المصيبة وحزنها

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج حد المصيبة وحزنها

قال تعال وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون اولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة واولئك هم المهتدون وفي المسند عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ما من أحد تصيبه مصيبة فيقول إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني مصيبتي وأخلف لي خيرا منها إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيرا منها وهذه الكلمة من أبلغ علاج المصاب وأنفعه له في عاجلته وآجلته فإنها تتضمن أصلين عظيمين إذا تحقق العبد بمعرفتها تسلى عن مصيبته أحدهما أن العبد وأهله وماله ملك لله عز وجل حقيقة وقد جعله عند العبد عارية فإذا أخذه منه فهو كالمعير يأخذ متاعه من المستعير وأيضا فإنه محفوف بعدمين عدم قبله وعدم بعده وملك العبد له متعة معارة في زمن يسير وأيضا فإنه ليس هو الذي أوجده عن عدمه حتى يكون ملكه حقيقة ولا هو الذي يحفظه من الآفات بعد وجوده ولا يبقى عليه وجوده فليس له فيه تأثير ولا ملك حقيقي وأيضا فإنه متصرف فيه بالأمر تصرف العبد المأمور المنهي لا تصرف الملاك ولهذا لا يباح له من التصرفات فيه إلا ما وافق أمر مالكه الحقيقي والثاني أن مصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق ولا بد أن يخلف الدنيا

وراء ظهره ويجيء ربه فردا كما خلقه أول مرة بلا أهل ولا مال ولا عشيرة ولكن بالحسنات والسيئات فإذا كانت هذه بداية العبد وما خوله ونهايته فكيف يفرح بموجود أو يأسى على مفقود ففكرة العبد في مبدئه ومعاده من أعظم علاج هذا الداء ومن علاجه أن يعلم علم اليقين أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه قال تعالى ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور ومن علاجه أن ينظر إلى ما أصيب به فيجد ربه قد أبقى عليه مثله أو أفضل منه وادخر له أن صبر ورضى ما هو أعظم من فوات تلك المصيبة بأضعاف مضاعفة وأنه لو شاء لجعلها أعظم مما هي ومن علاجه أن يطفى نار مصيبته ببرد التآسي بأهل المصائب وليعلم أنه في كل واد بنو سعد ولينظر يمنة فهل يرى إلا محنة ثم ليعطف يسرة فهل يرى إلا حصرة وأنه لو فتش العالم لم ير فيهم إلا مبتلي إما بفوات محبوب أو حصول مكروه وأن سرور الدنيا أحلام نوم أو كظل زائل إن أضحكت قليلا أبكت كثيرا وإن سرت يوما ساءت دهرا وإن متعت قليلا منعت طويلا وما ملأت دارا خيرة إلا ملآتها عبرة ولا سرته بيوم سرور إلا خبأت له يوم شرور قال ابن مسعود رضي الله عنه لكل فرحة ترحة وما ملىء بيت فرحا إلا مليء ترحا وقال ابن سيرين ما كان ضحك قط إلا من بعده بكاء

وقالت هند بنت النعمان لقد رأيتنا ونحن من أعز الناس وأشدهم ملكا ثم لم تغب الشمس حتى رأيتنا ونحن أقل الناس وإنه حق على الله أن لا يملأ دارا خيرة إلا ملأها عبرة وسألها رجل أن تحدثه عن أمرها فقالت أصبحنا ذات صباح وما في العرب أحد إلا يرجونا ثم أمسينا وما في العرب أحد ألا يرحمنا وبكت أختها حرقة بنت النعمان يوما وهي في عزها فقيل لها ما يبكيك لعل أحدا آذاك قالت لا ولكن رأيت غضارة في أهلي وقلما امتلأت دار سرورا إلا امتلأت حزنا قال إسحق بن طلحة دخلت عليها يوما فقلت لها كيف رأيت عبرات الملوك فقالت ما نحن في اليوم خير مما كنا فيه بالأمس إنا نجد في الكتب أنه ليس من أهل بيت يعيشون في خيرة إلا سيعقبون بعدها عبرة وإن الدهر لم يظهر لقوم بيوم يحبونه إلا بطن لهم بيوم يكرهونه ثم قالت فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا إذا نحن فيهم سوقةنتنصف فأف لدنيا لا يدوم نعيمها تقلب تارات بنا وتصرف ومن علاجها أن يعلم أن الجزع لا يردها بل يضاعفها وهو في الحقيقة من تزايد المرض ومن علاجها أن يعلم أن فوت ثواب الصبر والتسليم وهو من الصلاة والرحمة والهداية التي ضمنها الله على الصبر والاسترجاع أعظم من المصيبة في الحقيقة ومن علاجها أن يعلم أن الجزع يشمت عدوه ويسيء صديقه ويغضب ربه ويسر شيطانه ويحبط أجره ويضعف نفسه وإذا صبر واحتسب اقصى شيطانه ورده خاسئا وارضى ربه وسر صديقه وساء عدوه وحمل عن إخوانه وعزاهم هو

قبل أن يعزوه فهذا هو الثبات والكمال الأعظم لا لطم الخدود وشق الجيوب والدعاء بالويل والثبور والسخط علىالمقدور ومن علاجها أن يعلم أن ما يعقبه الصبر والاحتساب من اللذة والمسرة أضعاف ما كان يحصل له ببقاء ما أصيب به لوبقي عليه ويكفيه من ذلك بيت الجمد الذي يبنى له في الجنة على حمده لربه واسترجاعه فلينظر أي المصيبتين أعظم مصيبة العاجلة أو مصيبة فوات بيت الحمد في جنة الخلد وفي الترمذي مرفوعا يؤد ناس يوم القيامة أن جلودهم كانت تقرض بالمقاريض في الدنيا لما يرون من ثواب أهل البلاء وقال بعض السلف لولا مصائب الدنيا لو ردنا القيامة مفاليس ومن علاجها أن يروح قلبه بروح رجاء الخلف من الله فإنه من كل شيء عوض إلا الله فما منه عوض كما قيل من كل شيء إذا ضيعته عوض وما من الله إن ضيعته عوض ومن علاجها أن يعلم أن حفظه من المصيبة ما تحدثه له فمن رضى فله الرضا ومن سخط فله السخط فحظك منها ما أحدثتها لك فاختي إما خير الحظوظ أو شرها فإن أحدثت له سخطا وكفرا كتب في ديوان الهالكين وإن أحدثت له جزعا وتفريطا في ترك واجب أو في فعل محرم كتب في ديوان المفرطين وإن أحدثت له شكاية وعدم صبر كتب في ديوان المغبونين وإن أحدثت له اعتراضا على الله وقدحا في حكمته فقد قرع باب الزندقة أو ولجه وإن أحدثت له صبرا وثباتا لله كتب في ديوان الصابرين وإن أحدثت له الرضا كتب في ديوان الراضين وإن أحدثت له الحمد والشكر كتب في ديوان الشاكرين وكان تحت لواء الحمد مع الحمادين وإن أحدثت له

محبة واشتياقا إلى لقاء ربه كتب في ديوان المحبين المخلصين وفي مسند الإمام أحمد والترمذي من حديث محمود بن لبيد يرفعه إن الله إذا احب قوما ابتلاهم فمن رضى فله الرضا ومن سخط فله السخط زاد أحمد ومن جزع فله الجزع ومن علاجها أن يعلم أنه وإن بلغ في الجزع غايته فآخر أمره إلى صبر الاضطرار وهو غير محمود ولا مثاب قال بعض الحكماء العاقل يفعل في أول يوم المصيبة ما يفعله الجاهل بعد أيام ومن لم يصبر صبر الكرام سلاسلو البهائم وفي الصحيح مرفوعا الصبر عند الصدمة الأولى وقال الأشعث بن قيس إنك إن صبرت إيمانا واحتسابا وإلا سلوت سلو البهائم ومن علاجها أن يعلم أن أنفع الأدوية له موافقة ربه وإلهه فيما أحبه ورضيه له وأن خاصية المحبة وسرها موافقة المحبوب فمن أدعى محبة محبوب ثم سخط ما يحبه وأحب ما يسخطه فقد شهد على نفسه بكذبة وتمقت إلى محبوبة وقال أبو الدرداء إن الله إذا قضى قضاء أحب أن يرضى به وكان عمران ابن الحصين يقول في علته أحبه إلي أحبه إليه وكذلك قال أبو العالية وهذا دواء وعلاج لا يعمل إلا مع المحبين ولا يمكن كل أحد أن يتعالج به ومن علاجها أن يوازن بين أعظم اللذتين والتمتعين وأدومهما لذة تمتعه بما أصيب به ولذة تمتعه بثواب الله له فإن ظهر له الرجحان فآثر الراجح فليحمد الله على توفيقه وإن آثر المرجوح من كل وجه فليعلم أن مصيبته في عقله وقلبه ودينه أعظم من مصيبته التي أصيب بها في دنياه ومن علاجها أن يعلم أن الذي ابتلاه بها أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين وأنه

سبحانه لم يرسل إليه البلاء ليهلكه ولا ليعذبه به ولا ليجتاحه وإنما افتقده به ليمتحن صبره ورضاه عنه وإيمانه وليسمع تضرعه وابتهاله وليراه طريحا ببابه لائذا بجنابة مكسور القلب بين يديه رافعا قصص الشكوى إليه قال الشيخ عبد القادر يا بني إن المصيبة ما جاءت لتهلكك وإنما جاءت لتمتحن صبرك وإيمانك بابني القدر سبع والسبع لا يأكل الميتة والمقصود أن المصيبة كير العبد الذي يسبك به حاصله فإما أن يخرج ذهبا أحمر وإما أن يخرج خبثا كله كما قيل سبكناه ونحسبه لجينا فأبدى الكير عن خبث الحديد فإن لم ينفعه هذا الكير في الدنيا فبين يديه الكير الأعظم فإذا علم العبدان إدخاله كير الدنيا ومسبكها خير له من ذلك الكير والمسبك وأنه لا بد من أحد الكيرين فليعلم قدر نعمة الله عليه في الكير العاجل ومن علاجها أن يعلم أنه لولا محن الدنيا ومصائبها لأصاب العبد من أدواء الكبر والعجب والقرعنة وقسوة القلب ما هو سبب هلاكه عاجلا وآجلا فمن رحمة أرحم الراحمين أن يتفقده في الأحيان بأنواع من ادوية المصائب تكون حمية له من هذه الأدواء وحفظا لصحة عبوديته واستفراغا للمواد الفاسدة الرديئة المهلكة منه فسبحان من يرحم ببلائه ويبتلى بنعمائه كما قيل قد ينعم الله بالبولى وإن عظمت ويبتلى الله بعض القوم بالنعم فلولا أنه سبحانه يداوي عباده بأدوية المحن والابتلاء لطغوا وبغوا وعتوا والله سبحانه إذا أراد بعبد خيرا سقاه دواء من الإبتلاء والامتحان على قدر حاله يستفرغ به من الأدواء المهلكة حتى إذا هذبه ونقاه وصفاه أهله لا شرف مراتب الدنيا وهي عبوديته وأرفع ثواب الآخرة وهو رؤيته وقربه ومن علاجها أن يعلم أن مرارة الدنيا هي بعينها حلاوة الآخرة يقلبها الله سبحانه

كذلك وحلاوة الدنيا بعينها مرارة الآخرة ولأن ينتقل من مارة منقطعة إلى حلاوة دائمة خير له من عكس ذلك فإن خفي عليك هذا فأنظر إلى قول الصادق المصدوق حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات وفي هذا المقام تفاوتت عقول الخلائق وظهرت حقائق الرجال فأكثرهم آثر الحلاوة المنقطعة على الحلاوة الدائمة التي لا تزول ولم يحتمل مرارة ساعة بحلاوة الأبد ولا ذل ساعة لعز الأبد ولا محنة ساعة لعافية الأبد فإن الحاضر عنده شهادة والمنتظر غيب والإيمان ضعيف وسلطان الشهوة حاكم فتولد من ذلك إيثار العاجلة ورفض الأخرة وهذا حال النظر الواقع على ظاهر الأمور واوائلها ومبادئها وأما النظر الثاقب الذي يخرق حجب العاجلة ويجاوزه إلى العواقب والغايات فله شأن آخر فادع نفسك إلى ما أعد الله لأوليئاه وأهل طاعته من النعيم المقيم والسعادة الأبدية والفوز الأكبر وما أعد لأهل البطالة والإضاعة من الخزي والعقاب والحسرات الدائمة ثم اختر أي القسمين أليق بك وكل يعمل على شاكلته وكل أحد يصبو إلى ما يناسبه وما هو الأولى به ولا تستطل هذا العلاج فشدة الحاجة إليه من الطبيب والعليل دعت إلى بسطه وبالله التوفيق

No comments: