فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج داء الحريق وإطفائ
يذكر عن عمرو بن شعيب عن ابيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأيتم الحريق فكبروا فإن التكبير يطفئه لما كان الحريق سببه النار وهي مادة الشيطان التي خلق منها وكان فيه من الفسادالعام ما يناسب الشيطان بمادته وفعله كان للشيطان إعانة عليه وتنفيذا له وكانت النار تطلب بطبعها العلو والفساد وهذان الأمران وهما العلو في الأرض والفساد هما هدي الشيطان وإليهما يدعو وبهما يهلك بنى آدم فالنار والشيطان كل منهما يريد العلو في الأرض والفساد وكبرياء الرب عز وجل تقمع الشيطان وفعله ولهذا كان تكبير الله عز وجل له أثر فى إطفاء الحريق فإن كبرياء الله عز وجل لا يقوم لها شيء فإذا كبر المسلم ربه أثر تكبيره فى تكبيره فى خمود النار وخمود الشيطان التى هي مادته فيطفىء الحريق وقد جربنا نحن وغيرنا هذا فوجدنا كذلك والله أعلم فصل فى هديه فى حفظ الصحة لما كان اعتدال البدن صحته وبقاؤه إنما بواسطة الرطوبة المقاومة للحرارة فالرطوبة مادته والحرارة تنضجها وتدفع فضلاتها وتصلحها وتلطفها وإلا أفسدت البدن ولم يمكن قيامه وكذلك الرطوبة هى غذاء الحرارة فلولا الرطوبة لأحرقت البدن وأيبسته وأفسدته فقوام كل واحدة منهما بصاحبتها وقوام البدن بهما جميعا وكل منهما مادة للأخرى فالحرارة مادة للرطوبة تحفظها وتمنعها من الفساد والاستحالة والرطوبة مادة للحرارة تغذوها وتحملها ومتى مالت إحداهما إلى الزيادة على الأخرى حصل لمزاج البدن الإنحراف بحسب ذلك فالحرارة دائما تحلل الرطوبة فيحتاج البدن إلى ما به يخلف عليه ما حللته الحرارة ضرورة بقائه وهو الطعام والشراب ومتى زاد على مقدار التحلل ضعفت الحرارة عن تحليل فضلاته فاستحالت مواد رديئة فعاثت فى البدن وأفسدت فحصلت الأمراض المتنوعة بحسب تنوع موادها وقبول الأعضاء واستعدادها
وهذا كله مستفاد من قوله وكلوا وأشربوا ولا تسرفوا فأرشد عباده إلى إدخال ما يقيم البدن من الطعام والشراب عوض ما تحلل منه وأن يكون بقدر ما ينتفع به البدن فى الكمية والكيفية فمتى جاوز ذلك كان إسرافا وكلاهما مانع من الصحة جالب للمرض أعنى عدم الأكل والشرب أو الإسراف فيه فحفظ الصحة كله فى هاتين الكلمتين الإلهيتين ولا ريب أن البدن دائما فى التحلل والاستخلاف وكلما كثر التحلل ضعفت الحرارة لفناء مادتها فإن كثرة التحلل تفنى الرطوبة وهى مادة الحرارة وإذا ضعفت الحرارة ضعف الهضم ولا يزال كذلك حتى تفنى الرطوبة وتنطفىء الحرارة جملة فيستكمل العبد الأجل الذى كتب الله له أن يصل إليه فغاية علاج الإنسان لنفسه ولغيره حراسة البدن إلى أن يصل إلى هذه الحالة لا أنه يستلزم بقاء الحرارة والرطوبة اللتين بقاء الشباب والصحة والقوة بهما فإن هذا مما لم يحصل لبشر فى هذه الدار وإنما غاية الطبيب أن يحمى الرطوبة عن مفسداتها من العفونة وغيرها ويحمى الحرارة عن مضعفاتها وبعدل بينهما بالعدل فى التدبير الذى به قام بدن الإنسان كما أن به قامت السموات والأرض وسائر المخلوقات إنما قوامها بالعدل ومن تأمل هدى النبي وجده أفضل هدى يمكن حفظ الصحة به فإن حفظها موقوف على حسن تدبير المطعم والمشرب والملبس والمسكن والهواء والنوم واليقظة والحركة والسكون والمنكح والاستفراغ والاحتباس فإذا حصلت هذه على الوجه المعتدل الموافق الملائم للبدن والبلد والسن والعادة كان أقرب إلى دوام الصحة والعافية أو غلبتها إلى انقضاء الأجل ولما كانت الصحة من أجل نعم الله على عبده وأجزل عطاياه وأوفر منحه بل
العافية أجل النعم على الإطلاق فحقيق لمن رزق حظا من التوفيق مراعاتها وحفظها وحمايتها عما يضادها وقد روى البخارى فى صحيحه من حديث ابن عباس قال قال رسول الله نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ وفى الترمذى وغيره من حديث عبد الله بن محصن الأنصارى قال قال رسول الله من أصبح معافى فى جسده آمنا فى سربه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا وفى الترمذى أيضا من حديث أبى هريرة عن النبى أنه قال أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من النعيم أن يقال له ألم نصح لك جسمك ونروك من الماء البارد ومن ههنا قال من قال من السلف فى قوله تعالى ثم لتسألن يومئذ عن النعيم قال عن الصحة وفى مسند الإمام أحمد أن النبى قال للعباس يا عباس يا عم رسول الله سل الله العافية فى الدنيا والآخرة وفيه عن أبى بكر الصديق قال سمعت رسول الله يقول سلوا الله اليقين والمعافاة فما أوتي أحد بعد اليقين خيرا من العافية فجمع بين عافيتى الدين والدنيا ولا يتم صلاح العبد فى الدارين إلا باليقين والعافية فاليقين يدفع عنه عقوبات الآخرة والعافية تدفع عنه أمراض الدنيا فى قلبه وبدنه وفى سنن النسائى من حديث أبى هريرة يرفعه سلوا الله العفو والعافية والمعافاة فما أوتى أحد بعد يقين خيرا من العافية وهذه الثلاثة تتضمن إزالة الشرور الماضية بالعفو والحاضرة بالعافية والمستقبلة بالمعافاة فإنها تتضمن المداومة والإستمرار على العافية وفى الترمذى مرفوعا ما سئل الله شيئا أحب إليه من العافية وقال عبد الرحمن بن أبى ليلى عن أبى الدرداء قلت يا رسول الله لأن أعافى
فأشكر أحب إلي من أن أبتلى فأصبر فقال رسول الله ورسول الله يحب معك العافية ويذكر عن ابن عباس أن أعرابيا جاء إلى رسول الله فقال له ما أسأل الله بعد الصلوات الخمس فقال سل الله العافية فأعاد عليه فقال له فى الثالثة سل الله العافية فى الدنيا والآخرة وإذا كان هذا شأن العافية والصحة فيذكر من هديه فى مراعاة هذه الأمور ما يتبين لمن نظر فيه أنه أكمل الهدى على الإطلاق به حفظ صحة البدن والقلب وحياة الدنيا والآخرة والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله فصل فأما المطعم والمشرب فلم يكن من عادته حبس النفس على نوع واحد من الأغذية لا يتعداه إلى ما سواه فإن ذلك يضر بالطبيعة جدا وقد يتعذر عليها أحيانا فإن لم يتناول غيره ضعف أو هلك وإن تناول غيره لم تقبله الطبيعة فاستضر به فقصرها على نوع واحد دائما ولو أنه أفضل الأغذية خطر مضر بل كان يأكل ما جرت عادة أهل بلده بأكله من اللحم والفاكهة والخبز والتمر وغيره مما ذكرناه فى هديه فى المأكول فعليك بمراجعته ههنا وإذا كان فى أحد الطعامين كيفية تحتاج إلى كسر وتعديل كسرها وعدلها بضدها إن أمكن كتعديله حرارة الرطب بالطبيخ وإن لم يجد ذلك تناوله على حاجة وداعية من النفس من غير إسراف فلا تتضرر به الطبيعة وكان إذا عافت نفسه الطعام لم يأكله ولم يحملها إياه على كره وهذا أصل عظيم
فى حفظ الصحة فمتى أكل الإنسان ما تعافه نفسه ولا تشتهيه كان تضرره به أكثر من انتفاعه قال أنس ما عاب رسول الله طعاما قط إن اشتهاه أكله وإلا تركه ولم يأكل منه ولما قدم إليه الضب المشوى لم يأكل منه فقيل له أهو حرام قال لا ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدنى أعافه فراعى عادته وشهوته فلما لم يكن يعتاد أكله بأرضه وكانت نفسه لا تشتهيه أمسك عنه ولم يمنع من أكله من يشتهيه ومن عادته أكله وكان يحب اللحم وأحبه إليه الذراع ومقدم الشاة ولذلك سم فيه وفى الصحيحين أتى رسول الله بلحم فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه وذكر أبو عبيد وغيره عن ضباعة بنت الزبير أنها ذبحت فى بيتها شاة فأرسل إليها رسول الله أن أطعمينا من شاتكم فقالت للرسول ما بقى عندنا إلا الرقبة وإنى لأستحى أن أرسل بها إلى رسول الله فرجع الرسول فأخبره فقال ارجع إليها فقل لها أرسلى بها فإنها هادية الشاة وأقرب إلى الخير وأبعدها من الأذى ولا ريب أن أخف لحم الشاة لحم الرقبة ولحم الذراع والعضد وهو أخف على المعدة وأسرع انهضاما وفى هذه مراعاة الأغذية التى تجمع ثلاثة أوصاف الأول كثرة نفعها وتأثيرها فى القوى الثانى خفتها على المعدة وعدم ثقلها عليها الثالث سرعة هضمها وهذا أفضل ما يكون من الغذاء والتغذى باليسير من هذا أنفع من الكثير من غيره
وكان يحب الحلواء والعسل وهذه الثلاثة أعنى اللحم والعسل والحلواء من أفضل الأغذية وأنفعها للبدن والكبد والأعضاء وللاغتذاء بها نفع عظيم فى حفظ الصحة والقوة ولا ينضر منها إلا من به علة وآفة وكان يأكل الخبز مأدوما ما وجد له إداما فتارة يأدمه باللحم ويقول هو سيد طعام أهل الدنيا والآخرة رواه ابن ماجه وغيره وتارة بالبطيخ وتارة بالتمر فإنه وضع تمرة على كسرة وقال هذا إدام هذه وفى هذا من تدبير الغذاء أن خبز الشعير بارد يابس والتمر حار رطب على أصح القولين فأدم خبز الشعير به من أحسن التدبير لا سيما لمن تلك عادتهم كأهل المدينة وتارة بالخل ويقول نعم الإدام الخل وهذا ثناء عليه بحسب مقتضى الحال الحاضر لا تفضيل له على غيره كما يظن الجهال وسبب الحديث أنه دخل على أهله يوما فقدموا له خبزا فقال هل عندكم من إدام قالوا ما عندنا إلا خل نعم الإدام الخل والمقصود أن أكل الخبز مأدوما من أسباب حفظ الصحة بخلاف الاقتصار على أحدهما وحده وسمى الأدم أدما لإصلاحه الخبز وجعله ملائما لحفظ الصحة ومنه قوله فى إباحته للخاطب النظر إنه أحرى أن يؤدم بينهما أى أقرب إلى الالتئام والموافقة فإن الزوج يدخل على بصيرة فلا يندم وكان يأكل من فاكهة بلده عند مجيئها ولا يحتمى عنها وهذا أيضا من أكبر أسباب حفظ الصحة فإن الله سبحانه بحكمته جعل فى كل بلد من الفاكهة ماينتفع به أهلها فى وقته فيكون تناوله من أسباب صحتهم وعافيتهم ويغنى عن كثير من الأدوية وقل من احتمى عن فاكهة بلده خشية السقم إلا وهو من أسقم الناس جسما وأبعدهم من الصحة والقوة وما فى تلك الفاكهة من الرطوبات فحرارة الفصل وحرارة المعدة
تنضجها وتدفع شرها إذا لم يسرف فى تناولها ولم يحمل منها الطبيعة فوق ما تحتمله ولم يفسد بها الغذاء قبل هضمه ولا أفسدها بشرب الماء عليها وتناول الغذاء بعد التحلى منها فإن القولنج كثيرا ما يحدث عند ذلك فمن أكل منها ما ينبغى فى الوقت الذى ينبغى على الوجه الذى ينبغى كانت له دواء نافعا فصل فى هديه فى هيئة الجلوس للأكل صح عنه أن قال لا آكل متكئا وقال إنما أجلس كما يجلس العبد وآكل كما يأكل العبد وروى ابن ماجه فى سننه أنه نهى أن يأكل الرجل وهو منبطح على وجهه وقد فسر الاتكاء بالتربع وفسر بالاتكاء على الشىء وهو الاعتماد عليه وفسر بالاتكاء على الجنب فإنه والأنواع الثلاثة من الإتكاء فنوع منها يضر بالأكل وهو الإتكاء على الجنب فإنه يمنع مجرى الطعام الطبيعى عن هيئته ويعوقه عن سرعة نفوذه إلى المعدة ويضغط المعدة فلا يستحكم فتحها للغذاء وأيضا فإنها تميل ولا تبقى منتصبة فلا يصل الغذاء إليها بسهولة وأما النوعان الآخران فمن جلوس الجبابرة المنافى للعبودية ولهذا قال آكل كما يأكل العبد وكان يأكل وهو مقع ويذكر عنه أنه كان يجلس للأكل متوركا على ركبتيه ويضع بطن قدمه اليسرى على ظهر قدمه اليمنى تواضعا لربه عز وجل وأدبا بين يديه واحتراما للطعام وللمؤاكل فهذه الهيئة أنفع هيئات الأكل وأفضلها لأن الأعضاء كلها تكون على وضعها الطبيعى الذى خلقها الله سبحانه عليه مع ما فيها من الهيئة الأدبية وأجود ما اغتذى الإنسان إذا كانت أعضاؤه على وضعها الطبيعى ولا يكون كذلك إلا إذا كان الإنسان منتصبا الانتصاب الطبيعى وأردأ الجلسات لأكل الإتكاء على الجنب لما تقدم من أن المرىء وأعضاء الازدراد تضيق عند هذه الهيئة والمعدة لا تبقى
على وضعها الطبيعى لأنها تنعصر مما يلى البطن بالأرض ومما بلى الظهر بالحجاب الفاصل بين آلات الغذاء وآلات النفس وإن كان المراد بالاتكاء الاعتماد على الوسائد والوطاء الذى تحت الجالس فيكون المعنى أنى إذا أكلت لم أقعد متكئا على الأوطية والوسائد كفعل الحبابرة ومن يريد الإكثار من الطعام لكنى آكل بلغة كما يأكل العبد فصل وكان يأكل بأصابعه الثلاث وهذا أنفع ما يكون من الأكلات فإن الأكل بإصبع أو إصبعين لا يستلذ به الآكل ولا يمريه ولا يشبعه إلا بعد طول ولا تفرح آلات الطعام والمعدة بما ينالها فى كل أكلة فتأخذها على إغماض كما يأخذ الرجل حقه حبة أو حبتين أو نحو ذلك فلا يلتذ بأخذه ولا يسر به والأكل بالخمسة والراحة يوجب ازدحام الطعام على آلاته وعلى المعدة وربما استدت الآلات فمات وتغصب الالآت على دفعه والمعدة على احتماله ولا يجد له لذة ولا استمراء فأنفع الأكل أكله وأكل من اقتدى به بالأصابع الثلاث فصل ومن تدبر أغذيته وما كان يأكله وجده لم يجمع قط بين لبن وسمك ولا بين لبن وحامض ولا بين غذائين حارين ولا باردين ولا لزجين ولا قابضين ولا مسهلين ولا غليظين ولا مرخيين ولا مستحيلين إلى خلط واحد ولا بين مختلفين كقابض ومسهل وسريع الهضم وبطيئه ولا بين شوي وطبيخ ولا بين طرى وقديد ولا بين لبن وبيض ولا بين لحم ولبن ولم يكن يأكل طعاما فى وقت شدة حرارته ولا طبيخا بائتا يسخن له بالغد ولا شيئا من الأطعمة العفنة والمالحة كالكوامخ والمخللات والملوحات وكل هذه الأنواع ضار مولد لأنواع من الخروج عن الصحة والاعتدال وكان يصلح ضرر بعض الأغذية ببعض إذا وجد إليه سبيلا فيكسر حرارة هذا
ببرودة هذا ويبوسة هذا برطوبة هذا كما فعل فى القثاء والرطب وكما كان يأكل التمر بالسمن وهو الحيس ويشرب نقيع التمر يلطف به كيموسات الأغذية الشديدة وكان يأمر بالعشاء ولو بكف من تمر ويقول ترك العشاء مهرمة ذكره الترمذى فى جامعه وابن ماحه فى سننه وذكر أبو نعيم عنه أنه كان ينهى عن النوم على الأكل ويذكر أنه يقسى القلب ولهذا فى وصايا الأطباء لمن أراد حفظ الصحة أن يمشى بعد العشاء خطوات ولو مائة خطوة ولا ينام عقبه فإنه مضر جدا وقال مسلموهم أو يصلى عقيبه ليستقر الغذاء بقعر المعدة فيسهل هضمه ويجود بذلك ولم يكن من هديه أن يشرب على طعامه فيفسده ولا سيما إن كان الماء حارا أو باردا فإنه ردىء جدا قال الشاعر لا تكن عند أكل سخن وبرد ودخول الحمام تشرب ماء فإذا ما اجتنبت ذلك حقا لم تخف ما حييت فى الجوف داء ويكره شرب الماء عقيب الرياضة والتعب وعقيب الجماع وعقيب الطعام وقبله وعقيب أكل الفاكهة وإن كان الشرب عقيب بعضها أسهل من بعض وعقب الحمام وعند الانتباه من النوم فهذا كله مناف لحفظ الصحة ولا اعتبار بالعوئد فإنها طبائع ثوان فصل فى هديه فى الشراب وأما هديه فى الشراب فمن أكمل هدى يحفظ به الصحة فإنه كان يشرب العسل الممزوج بالماء البارد وفى هذا من حفظ الصحة ما لا يهتدى إلى معرفته إلا أفاضل الأطباء
فإن شربه ولعقة على الريق يذيب البلغم ويغسل خمل المعدة ويجلوا لزوجتها ويدفع عنها الفضلات ويسخنها باعتدال ويدفع سددها ويفعل مثل ذلك بالكبد والكلى والمثانة وهو أنفع للمعدة من كل حلو دخلها وإنما يضر بالعرض لصاحب الصفراء لحدته وحدة الصفراء فربما هيجها ودفع مضرته لهم بالخل فيعود حينئذ لهم نافعا جدا وشربه أنفع من كثير من الأشربة المتخذة من السكر أو أكثرها ولا سيما لمن لم يعتد هذه الأشربة ولا ألفها طبعه فإنه إذا شربها لا يلائمه ملائمة العسل ولا قريبا منه والمحكم فى ذلك العادة فإنها تهدم أصولا وتبنى أصولا وأما الشراب إذا جمع وصفى الحلاوة والبرودة فمن أنفع شيء للبدن ومن أكبر أسباب حفظ الصحة وللأرواح والقوى والكبد والقلب عشق شديد له واستمداد منه وإذا كان فيه الوصفان حصلت به التغذية وتنفيذ الطعام إلى الأعضاء وإيصاله إليها أتم تنفيذ والماء البارد رطب يقمع الحرارة ويحفظ على البدن رطوباته الأصلية ويرد عليه بدل ما تحلل منها ويرقق الغذاء وينفذه فى العروق واختلف الأطباء هل يغذى البدن على قولين فأثبت طائفة التغذية به بناء على ما يشاهدونه من النمو والزيادة والقوة فى البدن به ولا سيما عند شدة الحاجة إليه قالوا وبين الحيوان والنبات قدر مشترك من وجوه عديدة منها النمو والاغتذاء والاعتدال وفى النبات قوة حس وحركة تناسبه ولهذا كان غذاء النبات بالماء فما ينكر أن يكون للحيوان به نوع غذاء وأن يكون جزءا من غذائه التام
قالوا ونحن لا ننكر أن قوة الغذاء ومعظمه فى الطعام وإنما أنكرنا أن لا يكون للماء تغذية البتة قالوا وأيضا الطعام إنما يغذى بما فيه من المائية ولولاها لما حصلت به التغذية قالوا ولأن الماء مادة حياة الحيوان والنبات ولا ريب أن ما كان أقرب إلى مادة لشيء حصلت به التغذية فكيف إذا كانت مادته الأصلية قال الله تعالى وجعلنا من الماء كل شيء حي فكيف ينكر حصول التغذية بما هو مادة الحياة على الإطلاق قالوا وقد رأينا العطشان إذا حصل له الرى بالماء البارد تراجعت إليه قواه ونشاطه وحركته وصبر عن الطعام وانتفع بالقدر اليسير منه ورأينا العطشان لا ينتفع بالقدر الكثير من الطعام ولا يجد به القوة والاغتذاء ونحن لا ننكر أن الماء ينفذ الغذاء إلى أجزاء البدن وإلى جميع الأعضاء وأنه لا يتم أمر الغذاء إلا به وإنما ننكر على من سلبه قوة التغذية عنه البتة ويكاد قوله عندنا يدخل فى إنكار الأمور الوجدانية وأنكرت طائفة أخرى حصول التغذية به واحتجت بأمور يرجع حاصلها إلى عدم الاكتفاء به وأنه لا يقوم مقام الطعام وأنه لا يزيد فى نمو الأعضاء ولا يخلف عليها بدل ما حللته الحرارة ونحو ذلك مما لا ينكره أصحاب التغذية فإنهم يجعلون تغذيته بحسب جوهره ولطافته ورقته وتغذية كل شيء بحسبه وقد شوهد الهواء الرطب البارد اللين يغذى بحبه والرائحة الطيبة تغذى نوعا من الغذاء فتغذية الماء اظهر وأظهر والمقصود أنه إذا كان باردا وخالطه ما يحليه كالعسل أو الزبيب أو التمر أو السكر كان من أنفع ما يدخل البدن وحفظ عليه صحته فلهذا كان أحب الشراب
إلى رسول الله البارد الحلو والماء الفاتر ينفخ ويفعل ضد هذه الأشياء ولما كان الماء البائت أنفع من الذى يشرب وقت استقائه قال النبي وقد دخل إلى حائط أبى الهيثم بن التيهان هل من ماء بات فى شنه فأتاه به فشرب منه رواه البخاري ولفظه إن كان عندكم ماء بات في شنه وإلا كرعنا والماء البائت بمنزلة العجين الخمير والذي شرب لوقته بمنزلة الفطير وأيضا فإن الأجزاء الترابيه والأرضية تفارقه إذا بات وقد ذكر أن النبي كان يستعذب له الماء ويختار البائت منه وقالت عائشة كان رسول الله يستسقى له الماء العذب من بئر السقيا والماء الذي في القرب والشنان ألذ من الذي يكون في آنية الفخار والأحجار وغيرهما ولا سيما أسقية الأدم ولهذا التمس النبي ماء بات في شنة دون غيرها من الأواني وفي الماء إذا وضع في الشنان وقرب الأدم خاصة لطيفة لما فيها من المسام المنفتحة يرشح منها الماء ولهذا الماء الذي في الفخار الذي يرشح ألذ منه وأبرد في الذي لا يرشح فصلوات الله وسلامه على أكمل الخلق وأشرفهم نفسا وأفضلهم هديا في كل شىء لقد دل أمته على أفضل الأمور وأنفعها لهم في القلوب والأبدان في الدنيا والآخرة قالت عائشة رضي الله عنها كان أحب الشراب إلى رسول الله الحلو البارد وهذا يحتمل ان يريد به الماء العذب كمياه العيون والآبار الحلوة فإنه كان يستعذب له الماء ويحتمل أن يريد به الماء الممزوج بالعسل أو الذي نقع فيه التمر أو الزبيب وقد يقال وهو الأظهر يعمها جميعا وقوله في الحديث الصحيح إن كان عندك ماء بات في شن وإلا كرعنا
دليل على جواز الكرع وهو الشرب بالفم من الحوض والمقراة ونحوها وهذه والله أعلم واقعة عين دعت الحاجة فيها إلى الكرع بالفم أو قاله مبينا لجوازه فإن من الناس من يكره والأطباء تكاد تحرمه ويقولون إنه يضر بالمعدة وقد روى في حديث لا أدرى ما حاله عن ابن عمر رضي عنهما أن النبي نهانا ان نشرب على بطوننا وهو الكرع ونهانا أن نغترف باليد الواحدة وقال لا يلغ أحدكم كما يلغ الكلب ولا يشرب بالليل من إناء حتى يختبره إلا أن يكون مخمرا وحديث البخاري أصح من هذا وإن صح فلا تعارض بينهما إذ لعل الشرب باليد لم يكن يمكن حينئذ فقال وإلا كرعنا والشرب بالفم إنما يضر إذا انكب الشارب على وجهه وبطنه كالذي يشرب من الهر والغدير فأما إذا شرب منتصبا بفمه من حوض مرتفع ونحوه فلا فرق بين أن يشرب بيده أو بفمه فصل وكان من هديه الشرب قاعدا هذا كان هديه المعتاد وصح عنه أنه أمر الذي شرب قائما وصح عنه أنه أمر الذي شرب قائما أن يستقىء وصح عنه أنه شرب قائما فقالت طائفة هذا ناسخ للنهي وقالت طائفة بل مبين ان النهي ليس المتحريم بل للإرشاد وترك الأولى وقالت طائفة لا تعارض بينهما أصلا فإنه إنما شرب قائما للحاجة فإنه إنما يشرب قائما لحاجة فإنه جاء إلى زمزم وهم يستسقون منها فاستسقى فناولوه الدلو فشرب وهو قائم وهذا كان موضع حاجة وللشرب قائما آفات عديدة منها أنه لا يحصل به الري التام ولا يستقر في المعدة حتى يقسمه الكبد على الأعضاء وينزل بسرعة وحدة إلى المعدة فيخشى منه ان يبرد حرارتها ويشوشها ويسرع النفوذ إلى أسافل البدن بغير تدريج وكل هذا يضر بالشارب
واما إذا فعله نادرا أو لحاجة لم يضره ولا يعترض بالعوائد على هذا فإن العوائد طبائع ثوان ولها أحكام أخرى وهي بمنزله الخارج عن القياس عند الفقهاء فصل وفي صحيح مسلم من حديث أنس بن مالك قال كان رسول الله يتنفس في الشراب ثلاثا ويقول إنه أروى وأمرأ وأبرأ الشراب في لسان الشارع وحملة الشرع هو الماء ومعنى تنفسه في الشراب إبانه القدح عن فيه وتنفسه خارجه ثم يعود إلى الشراب كما جاء مصرحا به في الحديث الآخر إذا شربت أحدكم فلا يتنفس في القدح ولكن ليبن الإناء عن فيه وفي هذا الشرب حكم جمة وفوائد مهمة وقد نبه على مجامعها بقوله إنه أروى وأمرأ وأبرأ فاروى أشد ريا وأبلغه وانفعه وأبرأ أفعل من البرء وهو الشفاء أي يبرى من شدة العطش ودائه لتردده على المعدة الملتهبة دفعات فتسكن الدفعة الثانية ما عجزت الأولى عن تسكينه والثالثة ما عجزت الثانية عنه وأيضا فإنه أسلم لحرارة المعدة وابقى عليها من أن يهجم عليها البارد وهلة واحدة ونهلة واحدة وأيضا فإنه لا يروى لمصادفته لحرارة العطش لحظة ثم يقلع عنها ولما تكسر سورتها وحدثها وإن انكسرت لم تبطل بالكلية بخلاف كسرها على التمهل والتدريج وأيضا فإنه أسلم عاقبة وآمن غائله من تناول جميع ما يروى دفعة واحدة فإنه يخاف منه أن يطفيء الحرارة الغريزية بشدة برده وكثرة كميته أو يضعفها فيؤدي ذلك إلى فساد مزاج المعدة والكبد وإلى أمراض رديئة خصوصا في سكان البلاد الحارة كالحجاز واليمن ونحوهما أو في الأزمنة الحارة كشدة الصيف فإن الشرب وهلة واحدة مخوف عليهم جدا فإن الحار الغريزي ضعيف في بواطن أهلها وفي تلك الأزمنه الحارة وقوله وأمرأ هو أفعل من مرىء الطعام والشراب في بدنه إذا دخله وخالطه
بسهولة ولذة ونفع ومنه فكلوه هنيئا مريئا هنيئا في عاقبته مريئا في مذاقه وقيل معناه أنه أسرع انحدارا عن المريء لسهولته وخفته عليه بخلاف الكثير فانه لا يسهل على المريء انحداره ومن آفات الشرب نهلة واحدة أنه يخاف منه الشرق بأن ينسد مجرى الشراب لكثرة الوارد عليه فيغص به فإذا تنفس رويدا ثم شرب أمن من ذلك ومن فوائده أن الشارب إذا شرب أول مرة تصاعد البخار الدخانى الحار الذي كان على القلب والكبد بمرور الماء البارد عليه فأخرجته الطبيعة عنها فإذا شرب مرة واحدة اتفق نزول الماء البارد وصعود البخار فيتدافعان ويتعالجان ومن ذلك يحدث الشرق والغصة ولا يهنأ الشارب بالماء ولا يمرئه ولا يتم ريه وقد روى عبدالله بن المبارك والبيهقى وغيرهما عن النبى إذا شرب أحدكم فليمص الماء مصا ولا يعب عبا فان الكياد من العب والكياد بضم الكاف وتخفيف الباء وهو وجع الكبد وقد علم بالتجربة أن ورود الماء جملة واحدة على الكبد يؤلمها ويضعف حرارتها وسبب ذلك المضادة التي بين حرارتها وبين ما ورد عليها من كيفية المبرود وكميته ولو ورد بالتدريج شيئا فشيئا لم يضادحرارتها ولم يضعفها وهذا مثاله صب الماء البارد على القدر وهى تفور لا يضرها صبه قليلا قليلا وقد روى الترمذى في جامعه عنه لا تشربوا نفسا واحدا كشرب البعير ولكن اشربوا مثنى وثلاث وسموا إذا أنتم شربتم واحمدوا إذا انتم فرغتم
وللتسمية في أول الطعام والشراب وحمد الله في آخره تأثير عجيب في نفعه واستمرائه ودفع مضرته قال الأمام أحمد إذا جمع الطعام أربعا فقد كمل إذا ذكر اسم الله في أوله وحمد الله في آخره وكثرت عليه الأيدي وكان من حل فصل وقد روى مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبدالله قال سمعت رسول الله يقول غطوا الإناء وأوكوا السقاء فأن في السنة ليلة ينزل فيها الوباء لا يمر بإناء ليس عليه غطاء وسقاء ليس عليه وكاء إلا وقع فيه من ذلك الداء وهذا مما لا تناله علوم الأطباء ومعارفهم وقد عرفه من عرفه من عقلاء الناس وبالتجربة قال الليث بن سعد أحد رواة الحديث الأعاجم عندنا يتقون تلك الليلة في السنة في كانون الأول منها وصح عنه أنه أمر بتخمير الإناء ولوأن يعرض عليه عودا وفي عرض العود عليه من الحكمة انه لا ينسى تخميره بل يعتاد حتى بالعود وفيه انه ربما أراد الدبيب أن يسقط فيه فيمر على العود فيكون العود جسرا له يمنعه من السقوط فيه وصح عنه أنه أمر عند ايكاء الإناء بذكر اسم الله فان ذكر اسم الله عند تخمير الإناء يطرد عنه الشياطين وإبكاؤه يطرد عنه الهوام ولذلك أمر بذكر اسم الله في هذين موضعين لهذين المعنيين وروى البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس أن رسول الله نهى عن الشرب من في السقاء وفي هذا آداب عديدة منها أن تردد أنفاس الشارب فيه يكسبه زهومة ورائحة كريهة يعاف لأجلها ومنها أنه ربما غلب الداخل إلى جوفه من الماء فتضرر به ومنها انه ربما كان فيه حيوان لا يشعر به فيؤذيه ومنها أن الماء
ربما كان فيه قذاة أو غيرها لا يراها عند الشرب فتلج جوفه ومنها أن الشرب كذلك يملا البطن من الهواء فيضيق عن أخذ حظه من الماء أو يزاحمه أو يؤذيه ولغير ذلك من الحكم فان قيل فما تصنعون بما في جامع الترمذى أن رسول الله دعا باداوة يوم أحد فقال اختنث قم الاداوة ثم شرب منها من فمها قلنا نكتفى فيه بقول الترمذي هذا حديث ليس إسناده بصحيح عبدالله ابن عمر العمرى يضعف من قبل حفظه ولا أدرى سمع من عيسى أو لا انتهى يريد عيسى بن عبدالله الذي رواه عنه عن رجل من الأنصار فصل وفي سنن أبي داود من حديث أبي سعيد الخدري قال نهى رسول الله عن الشرب في ثلمة القدح وأن ينفخ في الشراب وهذه من الآداب التي يتم بها مصلحة الشارب فان الشرب من ثلمة القدح فيه عدة مفاسد أحدها أن ما يكون على وجه الماء من قذى أو غيره يجتمع إلى الثلمة بخلاف الجانب الصحيح والثاني انه ربما شوش على الشارب ولم يتمكن من حسن الشرب من الثلمة الثالث أن الوسخ والزهومة تجتمع في الثلمة ولا يصل إليها الغسل كما يصل إلى الجانب الصحيح الرابع أن الثلمة محل العيب في القدح وهى اردأ مكان فيه فينبغي تجنبه وقصد الجانب الصحيح فإن الرديء من كل شئ لا خير فيه ورأى بعض السلف رجلا يشترى حاجة رديئة فقال لا تفعل أما علمت أن الله نزع البركة من كل رديء الخامس أنه ربما كان في الثلمة شق أم تحديد يجرح فم الشارب ولغير هذه من المفاسد
وآما النفخ في الشراب فانه يكسبه من فم النافخ رائحة كريهة يعاف لأجلها ولا سيما أن كان متغير الفم وبالجملة فأنفاس النافخ تخالطه ولهذا جمع رسول الله بين النهى عن التنفس في الإناء والنفخ فيه في الحديث الذي رواه الترمذي وصححه عن ابن عباس رضى الله عنهما قال نهى رسول الله أن يتنفس في الإناء أو ينفخ فيه فان قيل فما تصنعون بما في الصحيحين من حديث أنس أن رسول الله كان يتنفس في الإناء ثلاثا قيل نقابله بالقبول والتسليم ولا معارضة بينه وبين الأول فان معناه أنه كان يتنفس في شربه ثلاثا وذكر الإناء لأنه آلة الشرب وهذا كما جاء في الحديث الصحيح أن إبراهيم ابن رسول الله مات في الثدي أي في مدة الرضاع فصل وكان يشرب اللبن خالصا تارة ومشوبا بالماء أخرى وفي شرب اللبن الحلو في تلك البلاد الحارة خالصا ومشوبا نفع عظيم في حفظ الصحة وترطيب البدن ورى الكبد ولا سيما اللبن الذي ترعى دوابه الشيح والقيصوم والخزامى وما أشبهها فان لبنها غذاء مع الأغذية وشراب مع الأشربة وداء مع الأدوية وفي جامع الترمذى عنه إذا أكل أحدكم طعاما فليقل اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه وإذا سقى لبنا فليقل اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه فانه ليس شئ يجزئ من الطعام والشراب ألا اللبن قال الترمذى هذا حديث حسن
No comments:
Post a Comment