ذكر القسم الأول وهو العلاج بالأدوية الطبيعية فصل في هدية في علاج الحمى
ثبت في الصحيحين عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنما الحمى أو شدة الحمى من فيح جهنم فأبر دوها بالماء وقد أشكل هذا الحديث على كثير من جهلة الأطباء ورآه منافيا لدواء الحمى وعلاجها ونحن نبين يحول الله وقوته وجهه وفقهه فنقول
خطاب النبي صلى الله عليه وسلم نوعان عام لأهل الأرض وخاص ببعضهم فالأول كعامة خطابه والثاني كقوله لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولا تستديروها ولكن شرقوا أو غربوا فهدا ليس بخطاب لأهل المشرق ولا المغرب ولا العراق ولكن لأهل المدينة وما على سمتها كالشام وغيرها وكذلك قوله ما بين المشرق والمغرب قبلة وإذا عرف هذا فخطابه في هذا الحديث خاص بأهل الحجاز وما والاهم إذ كان أكثر الحميات التي تعرض لهم من نوع الحمى اليومية العرضية الحادثة عن شدة حرارة الشمس وهذه ينفعها الماء البارد شربا واغتسالا فإن الحمى حرارة غريبة تشتعل بالقلب وتنبتث منه بتوسط الروح والدم في الشرايين والعروق إلى جميع البدن فتشتعل فيه اشتعالا يضر بالإفعال الطبيعية وهي تنقسم إلى قسمين عرضية وهي الحادثة إما عن الورم أو الحركة أو إصابة حرارة الشمس أو القيظ الشديد ونحو ذلك ومرضية وهي ثلاثة أنواع وهي لا تكون إلا في مادة أولى ثم منها يسخن جميع البدن فإن كان مبدأ تعلقها بالروح سميت حمى يوم لأنها في الغالب تزول في يوم ونهايتها ثلاثة أيام وإن كان مبدأ تعلقها بأخلاط سميت عفنية وهي أربعة أصناف صفراوية وسوداوية وبلغمية ودموية وإن كان مبدأ تعلقها بالأعضاء الصلبة الأصلية سميت حمى دق وتحت هذه الأنواع أصناف كثيرة وقد ينتفع البدن بالحمى انتفاعا عظيما لا يبلغه الدواء وكثيرا ما يكون حمى يوم وحمى
العفن سببا لانضاج مواد غليظة لم تكن تنضج بدونها وسببا لتفتح سدد لم تكن نصل إلهيا الأدوية المفتحة وأما الرمد الحديث والمتقادم فإنها تبرىء أكثر أنواعه برءا عجيبا سريعا وتنفع من الفالج واللقوة والتشنج الامتلائي وكثيرا من الأمراض الحادثة عن الفضول الغليظة وقال لي بعض فضلاء الأطباء إن كثيرا من الأمراض نستبشر فيها بالحمى كما يستبشر المريض بالعافية فتكون الحمى فيه أنفع من شرب الدواء بكثير فإنها تنضج من الخلاط والمواد الفاسدة ما يضر بالبدن فإذا انضجتها صادقها الدواء متهيئة للخروج بنضاجها فأخرجها فكانت سببا للشفاء وإذا عرف هذا فيجوز أن يكون مراد الحديث من أقسام الحميات العرضية فإنها تسكن على المكان بالانغماس في الماء البارد وسقى الماء البارد المثلوج ولا يحتاج صاحبها مع ذلك إلا علاج آخر فإنها مجرج كيفية حارة متعلقة بالروح فيكفي في زوالها مجرد وصول كيفية باردة تكنها وتخمد لهبها من غير حاجة إلى استفراغ مادة أو انتظار نضج ويجوز أن يراد به جميع أنواع الحميات وقد اعترف فاضل الأطباء جالينوس بأن الماء البارد ينفع فيها قال في المقالة العاشرة من كتاب حيلة البرء ولو أن رجلا شابا حسن اللحم خصب البدن في وقت القيظ وفي وقت منتهى الحمى وليس في أحشاءه ورم استحم بماء بارد أو سبح فيه لا نتفع بذلك وقال ونحن نأمر بذلك بلا توقف
وقال الرازي في كتابه الكبير إذا كانت القوة قوية والحمى حادة جدا والنضج بين ولا ورم في الجوف ولا فتق ينفع الماء البارد شربا وإن كان العليل خصب البدن والزمان حار وكان معتادا لاستعمال الماء البارد من خارج فليؤذن فيه وقوله الحمى من فيح جهنم هو شدد لهبها وانتشارها ونظيره قوله شدة الحر من فيح جهنم وفيه وجهان أحدهما أن ذلك أنموذج ورقيقة أشتقت من جهنم ليستدل بها العباد عليها ويعتبروا بها ثم أن الله سبحانه قدر ظهورها بأسباب تقتضيها كما أن الروح والفرح والسرور واللذة من نعيم الجنة أظهرها الله في هذه الدار عبرة ودلالة وقدر ظهورها بأسباب توجبها والثاني أن يكون المراد التشبيه فشبه شدة الحمى ولهبها بفوح جهنم وشبه شدة الحر به أيضا تنبيها للنفوس على شدة عذاب النار وأن هذه الحرارة العظيمة مشبهة بفيحها وهو ما يصيب من قرب منها من حرها وقوله فابر دوها روى بوجهين بقطع الهمزة وفتحها رباعي من أبرد الشيء إذا صبرة باردا مثل أسخنه إذا صيره سخنا والثاني بهمزة الوصل مضمومة من برد الشيء يبرده وهو أفصح لغة واستعمالا والرباعي لغة رديئة عندهم قال الحماسي إذا وجدت لهيب الحب في كبدي أقبلت نحو سقاء القوم ابترد هبني بردت ببرد الماء ظاهره فمن لنار على الأحشاء تتقد وقوله بالماء فيه قولان أحدهما أنه كل ماء وهو الصحيح والثاني أنه ماء زمزم واحتج أصحاب هذا القول بما رواه البخاري في صحيحه عن أبي جمرة نصر بن عمران الضبعي قال كنت أجالس ابن عباس بمكة
فأخذتني الحمى فقال أبردها عنك بماء زمزم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء أو قال بماء زمزم وراوي هذا قد شك فيه ولو جزم به لكان أمرا لأهل مكة بماء زمزم إذ هو متيسر عندهم ولغيرهم بما عندهم من الماء ثم اختلف من قال إنه على عمومه هل المراد به الصدقة بالماء أو استعماله على قولين والصحيح أنه ستعمال وأظن أن الذي حمل من قال المراد الصدقة به أنه أشكل عليه استعمال الماء البارد في الحمى ولم يفهم وجهه مع أن لقوله وجهاص حسنا وهو أن الجزاء من جنس العمل فكما أخمد لهيب العطش عن الظمآن بالماء البارد أخمد الله لهيب الحمى عنه جزاء وفاقا ولكن هذا يؤخذ من فقه الحديث وإشارته وأما المراد به فاستعماله وقد ذكر أبو نعيم وغيره من حديث أنس يرفعه إذا حم أحدكم فليرش عليه الماء البارد ثلاث ليال من السحر وفي سنن ابن ماجه عن أبي هريرة يرفعه الحمى من كير جهنم فنحوها عنكم بالماء البارد وفي المسند وغيره من حديث الحسن عن سمرة يرفعه الحمى قطعة من النار فأبردوها عنكم بالماء البارد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حم دعا بقربة من ماء فأفرغها على رأسه فاغتسل
وفي السنن من حديث أبي هريرة قال ذكرت الحمى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبها رجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسبها فإنها تنفي الذنوب كما تنفي النار خبث الحديد لما كانت الحمى يتبعها حمية عن الأغذية الرديئة وتناول الأغذية والأدوية النافعة وفي ذلك إعانه على تنقية البدن ونفي أخبائه وفضوله وتصفيته من مواده الرديئة وتفعل فيه كما تفعل النار في الحديد في نفي خبثه وتصفية جوهره كانت أشبه الأشياء بنار الكير التي تصفى جوهر الحديد وهذا القدر هو المعلوم عند اطباء الأبدان وأما تصفيتها القلب من وسخه ودرنه وإخراجها خبائثه فأمر يعلمه أطباء القلوب ويجدونه كما أخبرهم به نبيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن مرض القلب إذا صار مايوسا عن برئه ينفع فيه هذا العلاج فالحمى تنفع البدن والقلب وما كان بهذه المثابة فسبه ظلم وعدوان وذكرت مرة وأنا محموم قول بعض الشعراء يسبها زارت مكفرة الذنوب وودعت تبا لها من زائر ومودع قالت وقد عزمت على ترحالها ماذا تريد فقلت أن لا ترجعي فقلت تبا له إذسب ما نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبه ولو قال زارت مكفرة الذنوب لصبها أهلا بها من زائر ومودع قالت وقد عزمت على ترحالها ماذا تريد فقلت أن لا تقلعي لكان أولى به ولأقلعت عنه فأقلعت عني سريعا وقد روى في أثر لا أعرف حاله حمى يوم كفارة سنة وفيه قولان
أحدهما أن الحمى تدخل في كل الأعضاء والمفاصل وعدتها ثلثمائة وستون مفصلا فتكفر عنه بعدد كل مفصل ذنوب يوم والثاني أنها تؤثر في البدن تأثيرا لا يزول بالكلية إلى سنة كما قيل في قوله صلى الله عليه وسلم من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين يوما إن أثر الخمر يبقى في جوف العبد وعروقه وأعضائه أربعين يوما والله أعلم قال أبو هريرة مامن مرض يصيبني أحب إلي من الحمى لأنها تدخل في كل عضو مني وإن الله سبحانه يعطى كل عضو حظه من الأجر وقد روى الترمذي في جامعه من حديث رافع بن خديج يرفعه إذا أصابت أحدكم الحمى وإنما الحمى قطعة من النار فليطفئها بالماء البارد ويستقبل نهرا جاريا فليستقبل جرية الماء بعد الفجر وقبل طلوع الشمس وليقل باسم الله اللهم اشف عبدك وصدق رسولك وينغمس فيه ثلاث غمسات ثلاثة أيام فإن بريء وإلا ففي خمس فإن لم يبرأ في خمس فسبع فإنها لا تكاد تجاوز السبع بإذن الله قلت وهو ينفع فعله في فصل الصيف في البلاد الحارة على الشرائط التي تقدمت فإن الماء في ذلك الوقت أبرد ما يكون لبعده من ملاقاة الشمس ووفور القوي في ذلك الوقت لما أفادها النوم والسكون وبرد الهواء فيجتمع قوة القوي وقوة الدواء وهو الماء البارد على حرارة الحمى العرضية أو الغب الخالصة أعنى التي لا ورم معها ولا شيء من الأعراض الرديئة والمواد الفاسدة فيطفئها بإذن الله لا سيما
في أحد الأيام المذكورة في الحديث وهي الأيام التي يقع فيها بحران الأمراض الحادية كثيرا لا سيما في البلاد المذكورة لرقة أخلاط سكانها وسرعة انفعالهم عن الدواء النافع
فصل في هدية في علاج استطلاق البطن
في الصحيحين من حديث أبي المتوكل عن أبي سعيد الخدري أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن أخي يشتكي بطنه وفي رواية استطلق بطنه فقال أسقه عسلا فذهب ثم رجع فقال قد سقيته فلم يغن عنه شيئا وفي لفظ فلم يرده إلا استطلاقا مرتين أو ثلاثا كل ذلك يقول له اسقه عسلا فقال له في الثالثة أو الرابعة صدق الله وكذب بطن أخيك وفي صحيح مسلم في لفظ له إن أخي عرب بطنه أي فسد هضمه واعتلت معدته والاسم العرب بفتح الراء والذرب أيضا والعسل فيه منافع عظيمة فإنه جلاء للأوساخ التي في العروق والأمعاء وغيرها محلل للرطوبات أكلا وطلاء نافع للمشايخ وأصحاب البلغم ومن كان مزاجه باردا رطبا وهو مغذ ملين للطبيعة حافظ لقوي المعاجين ولما استودع فيه مذهب لكيفيات الأدوية الكريهة منق للكبد والصدر مدر للبول موافق للسعال الكائن عن البلغم وإذا شرب حارا بدهن الورد نفع من نهش الهوام وشرب الأفيون وإن شرب وحده ممزوجا بماء نفع من عضة الكلب الكلب وأكل الفطر القتال وإذا جعل فيه
اللحم الطري حفظ طراوته ثلاثة أشهر وكذلك إن جعل فيه القثاء والخيار والقرع والباذنجان ويحفظ كثيرا من الفاكهة ستة أشهر ويحفظ جثة الموتى ويسمى الحافظ الأمين وإذ لطخ به البدن المقمل والشعر قتل قمله وصئبانه وطول الشعر وحسنه ونعمه وإن اكتحل به جلا ظلمة البصر وإن استن به يبض الأسنان وصقلها وحفظ صحتها وصحة اللثة ويفتح أفواه العروق ويدر الطمث ولعقه على الريق يذهب البلغم ويغسل خمل المعدة ويدفع الفضلات عنها ويسخنها تسخينا معتدلا ويفتح سددها ويفعل ذلك بالكبد والكلىوالمثانة وهو أقل ضررا لسدد الكبد والطحال من كل حلو وهو مع هذا كله مأمون الغائلة قليل المضار مضر بالعرض للصفراويين ودفعها بالخل ونحوه فيعود حينئذ نافعا له جدا وهو غذاء مع الأغذية ودواء مع الأدويه وشراب مع الأشربة وحلو مع الحلو وطلاء مع الأطلية ومفرح مع المفرحات فما خلق لنا شيء في معناه أفضل منه ولا مثله ولا قريب منه ولم يكن معول القدماء إلا عليه وأكثر كتب القدماء لا ذكر فيها للسكر البتة ولا يعرفونه فإنه حديث العهد حدث قريبا وكان النبي صلى الله عليه وسلم يشربه بالماء على الريق وفي ذلك سر بديع في حفظ الصحة لا يدركه إلا الفطن الفاضل وسنذكر ذلك إن شاء الله عند ذكر هديه في حفظ الصحة وفي سنن ابن ماجة مرفوعا من حديث أبي هريرة من لعق ثلاث غدوات كل شهر لم يصبه عظيم البلاء
وفي آثر آخر عليكم بالشفاءين العسل والقرآن فجمع بين الطب البشري والإلهي وبين طب الأبدان وطب الأرواح وبين الدواء الأرضي والدواء السمائي إذا عرف هذا فهذا الذي وصف له النبي صلى الله عليه وسلم العسل كان استطلاق بطنه عن تخمة أصابته عن امتلاء فأمره بشرب العسل لدفع الفضول المجتمعة في نواحي المعدة والأمعاء فإن العسل فيه جلاء ودفع للفضول وكان قد أصاب المعدة أخلاط لزجة تمنع استقرار الغذاء فيه للزوجتها فإن المعدة لها خمل كخمل المنشفة فإذا علقت بها الأخلاط اللزجة أفسدتها وأفسدت الغذاء فدواؤها بما يجلوها من تلك الأخلاط والعسل جلاء والعسل من أحسن ما عولج به هذا الداء لا سيما إن مزج بالماء الحار وفي تكرار سقيه العسل معنى طبي بديع وهو أن الدواء يجب أن يكون له مقدار وكمية بحسب حال الداء إن قصر عنه لم يزله بالكلية وإن جاوزه أوهن القوي فأحدث ضررا آخر فلما أمره أن يسقيه العسل سقاه مقدارا لا يفي بمقاومة الداء ولا يبلغ الغرض فلما أخبره علم أن الذي سقاه لا يبلغ مقدار الحاجة فلما تكرر ترداده إلى النبي صلى الله عليه وسلم أكد عليه المعاودة ليصل إلى المقدار المقاوم للداء فلما تكررت الشربات بحسب مادة الداء بريء بإذن الله واعتبار مقادير الأدوية وكيفياتها ومقدار قوة المرض والمريض من أكبر قواعد الطب وفي قوله صلى الله عليه وسلم صدق الله وكذب بطن أخيك إشارة إلى تحقيق نفع هذا الدواء وأن بقاء الداء ليس لقصور الدواء في نفسه ولكن لكذب البطن وكثر المادة الفاسدة فيه فأمره بتكرار الدواء لكثرة المادة وليس طبه صلى الله عليه وسلم كطب الأطباء فإن طب النبي صلى الله عليه وسلم متيقن قطعي
ألهي صادر عن الوحي ومشكاة النبوة وكمال العقل وطب غيره أكثر حدس وظنون وتجارب ولا ينكر عدم انتفاع كثير من المرضى بطب النبوة فإنه إنما ينتفع به من تلقاه بالقبول واعتقاد الشفاء له وكمال التلقي له بالإيمان والإذعان فهذا القرآن الذي هو شفاء لما في الصدور إن لم يتلق هذا التلقى لم يحصل به شفاء الصدور من أدوائها بل لا يزيد المنافقين إلا رجسا إلى رجسهم ومرضا إلى مرضهم وأين يقع طب الأبدان منه فطب النبوة لا يناسب إلا الأبدان الطيبة كما أن شفاء القرآن لا يناسب إلا الأرواح الطيبة والقلوب الحية فأعراض الناس عن طب النبوة كإعراضهم عن الاستشفاء بالقرآن الذي هو الشفاء النافع وليس ذلك لقصور في الدواء ولكن لخبث الطبيعة وفساد المحل وعدم قبوله والله الموفق فصل وقد اختلف الناس في قوله تعالى يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس هل الضمير في فيه راجع إلى الشراب أو راجع إلى القرآن على قولين الصحيح منهما رجوعه إلى الشراب وهو قول ابن مسعود وابن عباس والحسن وقتادة والأكثرين فإنه هو المذكور والكلام سيق لأجله ولا ذكر للقرآن في الآية وهذا الحديث الصحيح وهو قوله صدق الله كالصريح فيه والله تعالى أعلم
No comments:
Post a Comment