Friday, August 29, 2008

في علاج الأبدان بما اعتادته من الأدوية والأغذية دون ما لم تعتده


فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج الأبدان بما اعتادته من الأدوية والأغذية دون ما لم تعتده

هذا أصل عظيم من أصول العلاج وأنفع شيء فيه وإذا أخطأه الطبيب ضر المريض من حيث يظن أنه ينفعه ولا يعدل عنه إلى ما يجده من الأدوية في كتب الطب إلا طبيب جاهل فإن ملاءمة الأدوية والأغذية للأبدان بحسب استعدادها وقبولها وهؤلاء أهل البوادي والأكارون وغيرهم لا ينجع فيهم شراب اللينوفر والورد الطري ولا المغلي ولا يؤثر في طباعهم شيئا بل عامة أدوية أهل الحضر وأهل الرفاهية لا تجدي عليهم والتجربة شاهدة بذلك ومن تأمل ما ذكرناه من العلاج النبوي رآه كله موافقا لعادة العليل وأرضه وما نشأ عليه فهذا أصل عظيم من أصول العلاج يجب الاعتناء به وقد صرح به أفاضل أهل الطب حتى قال طبيب العرب بل أطبهم الحارث بن كلدة وكان فيهم كأبقراط في قومه الحمية رأس الدواء والمعدة بيت الداء وعودوا كل بدن ما اعتاد وفي لفظ عنه الأزم دواء والأزم الإمساك عن الأكل يعنى به الجوع وهو من أكبر الأدوية في شفاء الأمراض الأمتلائية كلها بحيث أنه أفضل في علاجها من المستفرغات إذا لم يخف من كثرة الامتلاء وهيجان الأخلاط وحدتها وغليانها وقوله المعدة بيت الداء المعدة عضو عصبي مجوف كالقرعة في شكله مركب من ثلاث طبقات مؤلف من شظايا دقيقة عصبية تسمي الليف ويحيط بها لحم

وليف إحدى الطبقات بالطول والآخرى بالعرض والثالثة بالورب وفم المعدة أكثر عصبا وقعرها أكثر لحما وفي باطنها خمل وهي محصورة في وسط البطن وأميل إلى الجانب الأيمن قليلا خلقت على هذه الصفة لحكمة لطيفة من الخالق الحكيم سبحانه وهي بيت الداء وكانت محلا للهضم الأول فيها ينضج الغذاء وينحدر منها عبد ذلك إلى الكبد والأمعاء ويتخلف منه فيها فضلات عجزت القوة الهاضمة عن تمام هضمها إما لكثرة الغذاء أو لرداءته أو لسوء ترتيب في استعماله له أو لمجموع ذلك وهذه الأشياء بعضها مما لا يتخلص الإنسان منه غالبا فتكون المعدة بيت الداء لذلك وكأنه يشير بذلك إلى الحث على تقليل الغذاء ومنع النفس من أتباع الشهوات والتحرز عن الفضلات وأما العادة فلآنها كالطبيعة للإنسان ولذلك يقال العادة طبع ثان وهي قوة عظيمة في البدن حتى إن أمرا واحدا إذا قيس إلى أبدان مختلفة العادات كان مختلف النسبة إليها وإن كانت تلك الأبدان متفقة في الوجوه الأخرى مثال ذلك أبدان ثلاثة حار المزاج في سن الشباب أحدها عود تناول الأشياء الحارة والثاني عود تناول الأشياء الباردة والثالث عود تناول الأشياء المتوسطة فإن الأول متى تناول عسلا لم يضر به والثاني متى تناوله أضر به والثالث يضر به قليلا فالعادة ركن عظيم في حفظ الصحة ومعالجة الأمراض ولذلك جاء العلاج النبوي بإجراء كل بدن على عادته في استعمال الأغذية والأدوية وغير ذلك
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في تغذية المريض بألطف ما اعتاده من الأغذية
في الصحيحين من حديث عروة عن عائشة أنها كانت إذا مات الميت من

أهليها فاجتمع لذلك النساء ثم تفرقن إلا أهلها وخاصتها أمرت ببرمة من تلبينه فطبخت ثم صنع ثريد فصبت التلبينة عليها ثم قالت كلن منها فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول التلبينة مجمة لفؤاد المريض تذهب ببعض الحزن وفي السنن من حديث عائشة ايضا قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عليكم بالبغيض النافع التلبين قالت وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى أحد من أهله لم تزل البرمنة على النار حتى ينتهي أحد طرفيه يعني يبرأ أو يموت وعنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قيل له إن فلانا وجع لا يطعم الطعام قال عليكم بالتلبينة فحسوه إياها ويقول والذي نفسي بيده إنها تغسل بطن أحدكم كما تغسل إحداكن وجهها من الوسخ التلبين هو الحساء الرقيق الذي هو في قوام اللبن ومنه اشتق اسمه قال الهروي سميت تلبينة لشهها باللبن لبياضها ورقتها وهذا الغذاء هو النافع للعليل وهو الرقيق النضيج لا الغليظ النيء وإذا شئت أن تعرف فضل التلبينة فاعرف فضل ماء الشعير بل هي أفضل من ماء الشعير لهم فإنها حساء متخذ من دقيق الشعير بنخالته والفرق بينها وبين ماء الشعير أنه يطبخ صحاحا والتلبينة تطبخ منه مطحونا وهي أنفع منه لخروج خاصية الشعير بالطحن وقد تقدم أن للعادات تأثيرا في الانتقاع بالأدوية والأغذية وكانت عادة القوم أن يتخذوا ماء الشعير منه مطحونا لا صحاحا وهو أكثر تغذية وأقوى فعلا وأعظم جلاء وإنما اتخذه أطباء المدن منه صحاحل ليكون أرق وألطف فلا يثقل على طبيعة المريض وهذا بحسب طبائع أهل المدن ورخاوتها ويثقل ماء الشعير المطحون عليها

والمقصود أن ماء الشعير مطبوخاصحاحا ينفذ سريعا ويجلو جلاء ظاهرا ويغذى غذاء لطيفا وإذا شرب حارا كان اجلاؤه أقوى ونفوذه أسرع وإنماؤه للحرارة الغريزية أكثر وتلميسه لسطوح المعدة أوفق وقوله صلى الله عليه وسلم فيها مجمة لفؤاد المريض يروى بوجهين بفتح الميم والجيم وبضم الميم وكسر الجيم والأول أشهر ومعناه أنها مريحة له أي تريحه وتسكنه من الإجمام وهو الراحة وقوله ويذهب ببعض الحزن هذا والله أعلم لأن الغم والحزن يبردان المزاج ويضعفان الحرارة الغريزية لميل الروح الحامل لها إلى جهة القلب الذي هو منشؤها وهذا الحساء يقوي الحرارة الغريزية بزيادته في مادتها فتزيل أكثر ما عرض له من الغم والحزن وقد يقال وهو أقرب أنها تذهب ببعض الحزن بخاصية فيها من جنس خواص الأغذية المفرحة فإن من الأغذية ما يفرح بالخاصية والله أعلم وقد يقال إن قوي الحزين تضعف باستيلاء اليبس على أعضائه وعلى معدته خاصة لتقليل الغذاء وهذا الحساء يرطبها ويقويها ويغذيها ويفعل مثل ذلك بفؤاد المريض لكن المريض كثيرا ما يجتمع في معدته خلط مراري ولمغمى او صديدي وهذا الحساء يجلو ذلك عن المعدة ويسرره ويحدره ويميعه ويعدل كيفيته ويكسر سورته فيريحها ولا سيما لمن عادته الاغتذاء بخبز الشعير وهي عادة أهل المدينة إذ ذاك وكان هو غالب قوتهم وكانت الحنطة غزيرة عندهم والله أعلم

No comments: