Friday, August 29, 2008

ومراتب الغذاء

ومراتب الغذاء ثلاث أحدها مرتبة الحاجة والثانية مرتبة الكفاية والثالثة مرتبة الفضلة فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يكفيه لقيمات يقمن صلبه فلا تسقط قوته ولا تضعف معها فإن تجاوزها فليأكل في ثلث بطنه ويدع الثلث الآخر للماء والثالث للنفس وهذا من أنفع ما للبدن والقلب فإن البطن إذا أمتلأ من الطعام ضاق عن الشراب فإذا أورد عليه الشراب ضاق عن النفس وعرض له الكرب والتعب وصار محمله بمنزلة حامل الحمل الثقيل هذا إلى ما يلزم ذلك من فساد القلب وكل الجوارح عن الطاعات وتحركها في الشهوات التي يستلزمها الشبع فامتلاء البطن من الطعام مضر للقلب والبدن هذا إذا كان دائما أو اكثريا وأما إذا كان في الأحيان فلا بأس به فقد شرب أبو هريرة بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم من اللبن حتى قال والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكا وأكل الصحابة بحضرته مرارا حتى شبعوا والشبع المفرط يضعف القوي والبدن وإن أخصبه وإنما يقوي البدن بحسب ما يقبل من الغذاء لا بحسب كثرته ولما كان في الإنسان جزء أرضي وجزء هوائي وجزء مائي قسم النبي صلى الله عليه وسلم طعامه وشرابه ونفسه على الأجزاء الثلاثة فإن قيل فأين حظ جزء النار قيل هذه مسألة تكلم فيها الأطباء وقالوا إن في البدن جزءا ناريا بالفعل وهو أحد اركانه وإسطقساته

ونازعهم في ذلك آخرون من العقلاء من الأطباء وغيرهم وقالوا ليس في البدن جزء ناري بالفعل واستدلوا بوجوه أحدها إن ذلك الجزء الناري إما أن يدعى أنه نزل عن الأثير واختلط بهذه الاجزاء المائية والأرضية أو يقال إنه تولد فيها وتكون والأول مستبعد لوجهين أحدهما أن النار بالطبع صاعدة فلو نزلت لكانت بقاسر من مركزها إلى هذا العالم الثاني أن تلك الأجزاء النارية لا بد في نزولها أن تعبر على كرة الزمهرير التي هي في غاية البرد ونحن نشاهد في هذا العالم أن النار العظيمة تنطفىء بالماء القليل فتلك الأجزاء الصغيرة عند مرورها بكرة الزمهرير التي هي في غاية البرد ونهاية العظم أولى بالانطفاء وأما الثاني وهو أن يقال إنها تكونت ههنا فهو أبعد وأبعد لأن الجسم الذي صار نارا بعد أن لم يكن كذلك قد كان قبل صيرورته إما أرضا وإما ماء وإما هواء لانحصار الأركان في هذه الأربعة وهذا الذي قد صار نارا اولا كان مختلطا بأحد هذه الاجسام ومتصلا بها والجسم الذي لا يكون نارا إذا اختلط بأجسام عظيمة ليست بنار ولا واحد منها لا يكون مستعدا لأن ينقلب نارا لأنه في نفسه ليس بنار والاجسام المختلطه به باردة فكيف يكون مستعدا لانقلابه نارا وإن قلتم لم لا تكون هناك أجزاء نارية تقلب هذه الآجسام وتجعلها نارا بسبب مخالطتها إياها قلنا الكلام في حصول تلك الأجزاء النارية كالكلام في الأول فإن قلتم إنا نرى في رش الماء على النورة المطفأة تنفصل منها نار وإذا وقع شعاع الشمس على البلورة ظهرت النار منها وإذا ضربنا الحجر على الحديد ظهرت

النار وكل هذه النارية حدثت عند الاختلاط وذلك يبطل ما قررتموه في القسم الأول ايضا قال المنكرون نحن لا ننكر أن تكون المصاكة الشديدة محدثة للنار كما في ضرب الحجارة على الحديد أو تكون قوة تسخين الشمس محدثة للنار كما في البلورة لكنا نستبعد ذلك جدا في أجرام النبات والحيوان إذ ليس في أجرامها من الأصطكاك ما يوجب حدوث النار ولا فيها من الصفاء والصقال ما يبلغ إلى حد البلورة كيف وشعاع الشمس يقع على ظاهرها فلا تتولد النار البتة فالشعاع الذي يصل إلى باطنها كيف يولد النار الوجه الثاني في أصل المسألة أن الأطباء مجمعون على أن الشراب العتيق في غاية السخونة بالطبع فلو كانت تلك السخونة بسبب الأجزاء النارية لكانت محالا إذ تلك الأجزاء النارية مع حقارتها كيف يعقل بقاؤها في الأجزاء المائية الغالبة دهرا طويلا بحيث لا تنطفىء مع أنا نرى النار العظيمة تطفأ بالماء القليل الوجه الثالث أنه لو كان في الحيوان والنبات جزء ناري بالفعل لكان مغلوبا بالجزء المائي الذي فيه وكان الجزء الناري مقهورا به وغلبة بعض الطبائع والعناصر على بعض يقتضى انقلاب طبيعة المغلوب إلى طبيعة الغالب فكان يلزم بالضرورة انقلاب تلك الأجزاء النارية القليلة جدا إلى طبيعة الماء الذي هو ضد النار الوجه الرابع إن الله سبحانه وتعالى ذكر خلق الإنسان في كتابه في مواضع متعددة يخبر في بعضها أنه خلقه من ماء وفي بعضها أنه خلقه من تراب وفي بعضها أنه خلقه من المركب منهما وهو الطين وفي بعضها أنه خلق من صلصال كالفخار وهو الطين الذي ضربته الشمس والريح حتى صار صلصالا كالفخار ولم يخبر في موضع واحد أنه خلقه من نار بل جعل ذلك خاصية إبليس

وثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال خلقت الملائكة من نور وخلق إبليس من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم وهذا صريح في أنه خلق مما وصفه الله في كتابه فقط ولم يصف لنا سبحانه أنه خلقه من نار ولا أن في مادته شيئا من النار الوجه الخامس أن غاية ما يستدلون به ما يشاهدون من الحرارة في أبدان الحيوان وهي دليل على الأجزاء النارية وهذا لا يدل فإن أسباب الحرارة أعم من النار فإنها تكون من النار تارة وعن الحركة أخرى وعن انعكاس ألأشعة وعن سخونة الهواء وعن مجاورة النار وذلك بواسطة سخونة الهواء أيضا وتكون عن أسباب أخر فلا يلزم من الحرارة النار قال أصحاب النار من المعلوم أن التراب والماء إذا اختلطا فلا بد لهما من حرارة تقتضي طبخهما وامتزاجهما وإلا كان كل منهما غير ممازج للآخر ولا متحدا به وكذلك إذا ألقينا البذر في الطين بحيث لا يصل إليه الهواء ولا الشمس فسد فلا يخلو إما أن يحصل في المركب جسم منضج طابخ بالطبع أولا فإن حصل فهو الجزء النارى وإن لم يحصل لم يكن المركب مسخنا بطبعه بل إن سخن كان التسخين عرضيا فإذا زال التسخين العرضي لم يكن الشيء حارا في طبعه ولا في كيفيته وكان باردا مطلقا لكن من الأغذية والأدوية ما يكون حارا بالطبع فعلمنا أن حرارتها إنما كانت لأن فيها جوهرا ناريا وايضا فلو لم يكن في البدن جزء مسخن لوجب أن يكون في نهاية البرد لأن الطبيعة إذا كانت مقتضية للبرد وكانت خالية عن المعاون والمعارض وجب انتهاء البرد إلى أقصى الغاية ولو كان كذلك لما حصل لها الإحساس بالبرد لأن البرد الواصل إليه إذا كان في الغاية كان مثله والشيء لا ينفعل عن مثله وإذا لم ينفعل عنه

لم يحس به وإذا لم يحس به لم يتألم عنه وإن كان دونه فعدم الأنفعال يكون أولى فلولم يكن في البدن جزء مسخن بالطبع لما انفعل عن البرد ولا تألم به قالوا وأدلتكم إنما تبطل قول من يقول الأجزاء النارية باقية في هذه المركبات على حالها وطبيعتها النارية ونحن لا نقول بذلك بل نقول إن صورتها النوعية تفسد عند الامتزاج قال الآخرون لم لا يجوز أن يقال إن الأرض والماء والهواء إذا اختلطت فالحرارة المنضجة الطابخة لها هي حرارة الشمس وسائر الكواكب ثم ذلك المركب عند كمال نضجه يستعد لقبول الهيئة التركيبية بواسطة السخونة نباتا كان أو حيوانا أو معدنا وما المانع أن تكون السخونة والحرارة التي في المركبات هي بسب خواص وقوي يحدث الله تعالى عند ذلك الامتزاج لا من أجزاء نارية بالفعل ولا سبيل لكم إلى أبطال هذا الإمكان البتة وقد اعترف جماعة من فضلاء الأطباء بذلك وأما حديث إحساس البدن بالبرد فنقول هذا يدل على أن في البدن حرارة وتسخينا ومن ينكر ذلك لكن ما الدليل على انحصار المسخن في النار فإنه وان كان كل نار مسخنا فإن هذه القضية لا تنعكس كلية بل عكسها الصادق بعض المسخن نار وأما قولكم بفساد صورة النار النوعية فأكثر الأطباء على بقاء صورتها النوعية والقول بفسادها قول فاسد قد اعترف بفساده أفضل متأخريكم في كتابه المسمى بالشفاء وبرهن على بقاء الأركان أجمع على طبائعها في المركبات وبالله التوفيق فصل وكان علاجه صلى الله عليه وسلم للمرض ثلاثة أنواع أحدها بالأدوية الطبيعية والثاني بالأدوية الإلهية والثالث بالمركب من الأمرين

No comments: