Friday, August 29, 2008

في التحرز من الدواء المعدية بطبعها وإرشاده الأصحاء إلى مجانبة أهلها


فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في التحرز من الدواء المعدية بطبعها وإرشاده الأصحاء إلى مجانبة أهلها

ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله أنه كان في وفد ثقيف رجل مجذوم فارسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم ارجع فقد بايعناك وروى البخاري في صحيحه تعليقا من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فر من المجذوم كما تفر من الأسد وفي سنن ابن ماجه من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تديموا النظر إلى المجذومين وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يوردن ممرض على مصح ويذكر عنه عنه صلى الله عليه وسلم كلم المجذوم وبينك وبينه قيد رمح أو رمحين الجذام علة رديئة تحدث من انتشار المرةالسوداء في البدن كله فيفسد مزاج الاعضاء وهيئتها وشكلها وربما فسد في آخره اوصالها حتى تتأكل الأعضاء وتسقط ويسمى داء الأسد وفي هذه التسمية ثلاثة أقوال للأطباء أحدها أنها لكثرة ما يعتري

الأسد والثاني لأن هذه العلة تجهم وجه صاحبها وتجعله في سحنة الأسد والثالث أنه يفترس من يقر به أو يدنو منه بدائه افتراس الأسد وهذه العلة عند الأطباء من العلل المعدية المتوارثة مقارب المجذوم وصاحب السل يسقم برائحته فالنبي صلى الله عليه وسلم لكمال شفقته على الأمة ونصحه لهم نهاهم عن الأسباب التي تعرضهم لوصول العيب والفساد إلى أجسامهم وقلوبهم ولا ريب أنه قد يكون في البدن تهيؤ واستعداد كامن لقبول هذا الداء وقد تكون الطبيعة سريعة الإنفعال قالبة للاكتساب من أبدان من تجاوره وتخالطه فإنها نقالة وقد يكون خوفها من ذلك ووهمها من أكثر أسباب إصابة تلك العلة لها فإن الوهم فعال مستول على القوى والطبائع وقد تصل رائحة العليل إلى الصحيح فتسقمه وهذا معاين في بعض الأمراض والرائحة أحد أسباب العدوى ومع هذا كله فلا بد من وجود استعداد البدن وقبوله لذلك الداء وقد تزوج النبي صلى الله عليه وسلم امرأة فلما أراد الدخول بها وجد بكشحها بياضا فقال ألحقي بأهلك وقد ظن طائفة من الناس أن هذه الأحاديث معارضة بأحاديث أخر تبطلها وتناقضها فمنها ما رواه الترمذي من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيد رجل مجذوم فأدخلها معه في القصعة وقال كل باسم الله ثقة بالله وتوكلا عليه ورواه ابن ماجه من حديث جابر بن عبد الله وبما ثبت في الصحيح

عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا عدوى ولا طيرة ونحن نقول لا تعارض بحمد الله بين أحاديثه الصحيحة فإذا وقع التعارض فإما أن يكون أحد الحديثين ليس من كلامه صلى الله عليه وسلم وقد غلط فيه بعض الرواة مع كونه ثقة ثبتا فالثقه يغلط أو يكون أحد الحديثين ناسخا للآخر فإذا كان مما يقبل النسخ أو التعارض في فهم السامع لا في نفس كلامه صلى الله عليه وسلم فلا بد من وجه من هذه الوجوه الثلاثة وأما حديثان صحيحان صريحان متناقضان من كل وجه ليس أحدهما ناسخا للآخر فهذا لا يوجد أصلا ومعاذ الله أن يوجد في كلام الصادق المصدوق الذي لا يخرج من بين شفتيه إلا الحق والأفة من التقصير في معرفة المنقول والتمييز بين صحيحه ومعلوله أو من القصور في فهم مراده صلى الله عليه وسلم وحمل كلامه على غير ماعناه به أو منهما معا ومن ههنا وقع من الاختلاف والفساد ما وقع وبالله التوفيق قال ابن قتيبة في كتاب اختلاف الحديث له حكاية عن أعداء الحديث وأهله قالوا حديثان متناقضان رويتم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا عدوى ولا طيرة وقيل له إن النقبة تقع بمشفر البعير فيجرب لذلك الإبل قال فما أعدى الأول ثم رويتم لا يرود ذو عاهة على مصح وفر من المجذوم فرارك من الأسد وأتاه رجل مجذوم ليبايعه على الإسلام فارسل إليه البيعة وأمره بالانصراف ولم يأذن له وقال الشؤم في المرأة والدر والدابة قالوا وهذا كله مختلف لا يشبه بعضه بعضا قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس في هذا اختلاف ولكل معنى منها وقت وموضع فإذا وضع موضعه زال الاختلاف والعدوى جنسان أحدهما عدوى

الجذام فإن المجذوم يشتد رائحته حتى يسقم من أطال مجالسته ومحادثته وكذلك المرأة تكون تحت المجذوم فتضاجعه في شعار واحد فيوصل إليها الأذى وربما جذمت وكذلك ولده ينزعون في الكبر إليه وكذلك من كان به سل ودق ونقب والأطباء تأمر أن لا يجالس المسلول ولا المجذوم ولا يريدون بذلك معنى العدوى وإنما يريدون به به معنى تغير الرائحة وأنها قد تسقم من أطال اشتمامها والأطباء أبعد الناس عن الإيمان بيمن وشؤم وكذلك النقبة تكون بالبعير وهو جرب رطب فإذا خالط الإبل أو حاكها وأوى في مباركها وصل إليها بالماء الذي يسيل منه وبالنطف نحو ما به فهذا هو المعنىالذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم لا يورد ذو عاهة على مصح كره أن يخالط المعيوه الصحيح لئلا يناله من نطفه وحكته نحو ما به قال وأما الجنس الآخر من العدوى فهو الطاعون ينزل ببلد فيخرج منه خوف العدوى وقد قال صلى الله عليه وسلم إذا وقع ببلد وأنتم به فلا تخرجوا منه وإذا كان ببلد فلا تدخلوه يريد بقوله لا تخرجوا من البلد إذا كان فيه كأنكم تظنون أن الفرار من قدر الله ينجيكم من الله ويريد بقوله و إذا كان ببلد فلا تدخلوه أن مقامكم في الموضع الذي لا طاعون فيه اسكن لقلوبكم وأطيب لعيشكم ومن ذلك المرأة تعرف بالشؤم أو الدار فينال الرجل مكروه أو جائحة فيقول أعدتني بشؤمها فهذا هو العدوى الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لا عدوى وقالت فرقة أخرى بل الأمر باجتناب المجذوم والفرار منه على الاستحباب والاختيار والإرشاد وأما الأكل معه ففعله لبيان الجواز وأن هذا ليس بحرام وقالت فرقة أخرى بل الخطاب بهذين الخطابين جزئي لا كلى فكل واحد

خاطبه النبي صلى الله عليه وسلم بما يليق بحاله فبعض الناس يكون قوي الإيمان قوي التوكل يدفع قوة توكله قوة العدوى كما تدفع قوة الطبيعة قوة العلة فتبطلها وبعض الناس لا يقوي على ذلك فخاطبه بالاحتياط والأخذ بالتحفظ وكذلك هو صلى الله عليه وسلم فعل الحالتين معا لتقدى به الأمة فيهما فيأخذ من قوي من أمته بطريقة التوكل والثقه بالله ويأخذ من ضعف منهم بطريقة التحفظ والاحتياط وهما طريقان صحيحان أحدهما للمؤمن القوي والاخر للمؤمن الضعيف فتكون لكل واحد من الطائفتين حجة وقدوة بحسب حالهم وما يناسبهم وهذا كما أنه صلى الله عليه وسلم كوى وأثنى على تارك الكي وقرن تركه بالتوكل وترك الطيرة ولهذا نظائر كثيرة وهذه طريقة لطيفة حسنة جدا من أعطاها حقها ورزق فقه نفس فيها أزالت عنه تعارضا كثيرا يظنه بالسنة الصحيحة وذهبت فرقة أخرى إلى أن الأمر بالفرار منه ومجانبته لأمر طبيعي وهو انتقال الداء منه بواسطة الملامسة والمخالطة والرائحة إلى الصحيح وهذا يكون مع تكرير المخالطة والملامسة له وأما أكله معه مقدار يسيرا من الزمان لمصلحة راجحة فلا بأس به ولا تحصل العدوى من مرة واحدة ولحظة واحدة فنهى سدا للذريعة وحماية للصحة وخالطه مخالطة ما للحاجة والمصلحة فلا تعارض بين الأمرين وقالت طائفة أخرى يجوز أن يكون هذا المجذوم الذي أكل معه به من الجذام أمر يسير لا يعدى مثله وليس الجذمى كلهم سواء ولا العدوى حاصلة من جميعهم بل منهم من لا تضر مخالطته ولا تعدى وهو من أصابه من ذلك شيء يسير ثم وقف واستمر على حاله ولم يعد بقية جسمه فهو أن لا يعدى غيره أولى وأحرى وقالت فرقة أخرى إن الجاهلية كانت تعتقد أن الأمراض المعدية تعدى بطبعها من غير إضافة إلى الله سبحانه فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم اعتقادهم ذلك واكل مع المجذوم

ليبين لهم أن الله سبحانه هو الذي يمرض ويشفى ونهى عن القرب منه ليتبين لهم أن هذه من الأسباب التي جعلها الله مفضية إلى مسبباتها ففي نهيه إثبات الأسباب وفي فعله بيان أنها لا تستقل بشيء بل الرب سبحانه إن شاء سلبها قواها فلا تؤثر شيئا وإن شاء أبقى عليها قواها فأثرت وقالت فرقة أخرى بل هذه الأحاديث فيها الناسخ والمنسوخ فينظر في تاريخها فإن علم المتأخر منها حكم بأنه الناسخ وإلا توقفنا فيها وقالت فرقة أخرى بل بعضها محفوظ وبعضها غير محفوظ وتكلمت في حديث لا عدوى وقالت قد كان أبو هريرة يرويه اولا ثم شك فيه فتركه وراجعوه فيه وقالوا له سمعناك تحدث فأبى أن يحدث به قال أبو سلمة فلا أدري أنسى أبو هريرة أم نسخ أحد الحديثين الاخر وأما حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيد مجذوم فأدخلها معه في القصعة فحديث لا يثبت ولا يصح وغاية ما قال فيه الترمذي غريب لم يصححه ولم يحسنه وقد قال شعبة وغيره اتقوا هذه الغرائب قال الترمذى ويروى هذا من فعل عمر وهو أثبت فهذا شأن هذين الحديثين اللذين عورض بهما أحاديث النهي أحدهما رجع أبو هريرة عن التحديث به وأنكره والثاني لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والله أعلم وقد أشبعنا الكلام في هذه المسألة في كتاب المفتاح بأطول من هذا وبالله التوفيق

No comments: