Friday, August 29, 2008

في علاج الصرع


فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج الصرع
أخرجا في الصحيحين من حديث عطاء بن أبي رباح قال قال ابن عباس ألا أريك امرأة من أهل الجنة قلت بلى قال هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت إني أصرع وإني اتكشف فادع الله لي فقال إن شئت صبرت ولك الجنة وإن شئت دعوت الله لك أن يعافيك فقالت أصبر قالت فإني اتكشف فادع الله أن لا أتكشف فدعا لها قلت الصرع صرعان صرع من الأرواح الخبيثة الأرضية وصرع من الأخلاط الرديئة والثاني هو الذي يتكلم فيه الأطباء في سببه وعلاجه وأما صرع الأرواح فأئمتهم وعقلاؤهم يعترفون به ولا يدفعونه ويعترفون بأن علاجه مقابلة الأرواح الشريفة الخيرة العلوية لتلك الأرواح الشريرة الخبيثة فتدفع آثارها وتعارض أفعالها وتبطلها وقد نص على ذلك أبقراط في بعض كتبه فذكر بعض علاج الصرع وقال هذا إنما ينفع في الصرع الذي سببه الأخلاط والمادة وأما الصرع الذي يكون من الأرواح فلا ينفع فيه هذا العلاج أما جهلة الأطباء وسقطهم وسفلتهم ومن يعتقد بالزندقة فضيلة فأولئك ينكرون صرع الأوراح ولا يقرون بأنها تؤثر في بدن المصروع وليس معهم إلا الجهل وإلا فليس في الصناعة الطبية ما يدفع ذلك والحس والوجود شاهد به وإحالتهم ذلك على غلبة بعض الأخلاط هو صادق في بعض أقسامه لا في كلها وقدماء الأطباء كانوا يسمون هذا الصرع المرض الإلهي وقالوا إنه من الأرواح وأماجالينوس وغيره فتأولوا عليهم هذه التسمية وقالوا إنما سموها بالمرض

الإلهي لكون هذه العلة تحدث في الرأس فتضر بالجزء الإلهي الظاهر الذي مسكنه الدماغ وهذا التأويل نشأ لهم من جهلهم بهذه الأرواح وأحكامها وتأثيراتها وجاءت زنادقة الأطباء فلم يثبتوا إلا صرع الأخلاط وحده ومن له عقل ومعرفة بهذه الأرواح وتأثيراتها يضحك من جهل هؤلاء وضعف عقولهم وعلاج هذا النوع يكون بأمرين أمر من جهة المصروع وأمر من جهة المعالج فالذي من جهة المصروع يكون بقوة نفسه وصدق توجهه إلى فاطر هذه الأرواح وبارئها والتعوذ الصحيح الذي قد تواطأ عليه القلب واللسان فإن هذا نوع محاربة والمحارب لا يتم له الانتصاف من عدوه بالسلاح إلالأمرين أن يكون السلاح صحيحا في نفسه جيدا وأن يكون الساعد قويا فمتى تخلف أحدهما لم يغن السلاح كثير طائل فكيف إذا عدم الأمران جميعا يكون القلب خرابا من التوحيد والتوكل والتقوى والتوجه ولا سلاح له والثاني من جهة المعالج بأن يكون فيه هذان الأمران ايضا حتى إن من المعالجين من يكتفي بقوله أخرج منه أو يقول باسم الله أو يقول لا حول ولا قوة إلا بالله والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقول اخرج عدو الله أنا رسول الله وشاهدت شيخنا يرسل إلى المصروع من يخاطب الروح التي فيه ويقول قال لك الشيخ أخرجي فإن هذا لا يحل لك فيفيق المصروع وربما خاطبها بنفسه وربما كانت الروح ماردة فيخرجها بالضرب فيفيق المصروع ولا يحس بألم وقد شاهدنا نحن وغيرنا منه ذلك مرارا

وكان كثيرا ما يقرأ في أذن المصروع أفحسبتم أنماخلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون وحدثني أنه قرأها مرة في أذن المصروع فقالت الروح نعم ومد بها صوته قال فأخذت له عصا وضربته بها في عروق عنقه حتى كلت يداي من الضرب ولم يشك الحاضرون بأنه يموت لذلك الضرب ففي أثناء الضرب قالت أنا أحبه فقلت لها هو لا يحبك قالت أنا أريد أن أحج به فقلت لها هو لا يريد أن يحج معك فقالت أنا أدعه كرامة لك قال قلت لا ولكن طاعة لله ولرسوله قالت فأنا أخرج منه قال فقعد المصروع يلتفت يمينا وشمالا وقال ما جاء بي إلى حضرة الشيخ قالوا له وهذا الضرب كله فقال وعلي أي شيء يضربني الشيخ ولم أذنب ولم يشعر بأنه وقع به الضرب البتة وكان يعالج بآية الكرسي وكان يأمر بكثرة قراة المصروع من يعالجه بها وبقراة المعوذتين وبالجملة فهذا النوع من الصرع وعلاجه لا ينكره إلا قليل الحظ من العلم والعقل والمعرفة وأكثر تسلط الأرواح الخبيثة على أهله تكون من جهة قلت دينهم وخراب قلوبهم وألسنتهم من حقائق الذكر والتعاويذ والتحصنات النبوية والإيمانية فتلقى الروح الخبيثة الرجل أعزل لا سلاح معه وربما كان عريانا فيؤثر فيه هذا

ولو كشف الغطاء لرأيت أكثر النفوس البشرية صرعى مع هذه الأرواح الخبيثة وهي في أسرها وقبضتها تسوقها حيث شاءت ولا يمكنها الامتناع عنها ولا مخالفتها وبها الصرع الأعظم الذي لا يفيق صاحبه إلا عند المفارقة والمعاينة فهناك يتحقق أنه كان هو المصروع حقيقة وبالله المستعان وعلاج هذا الصرع باقتران العقل الصحيح إلا الإيمان بما جاءت به الرسل وأن تكون الجنة والنار نصب عينه وقبلة قلبه ويستحرض أهل الدنيا وحلول المثولات والآفات بهم ووقوعها خلال ديارهم كمواقع القطر وهم صرعى لا يفيقون وما أشد أعداء هذا الصرع ولكن لما عمت البلية به بحيث ينظر الإنسان لا يرى إلا مصروعا لم يصر مستغربا ولا مستنكرا بل صار لكثرة المصروعين عين المستنكر المستغرب خلافة فإذا أراد الله بعبد حيرا أفاق من هذه الصرعة ونظر إلى أبناء الدنيا مصروعين حوله يمينا وشمالا علىاختلاف طبقاتهم فمنهم من أطبق به الجنون ومنهم من يفيق أحيانا قليلة ويعود إلى جنونه ومنهم من يجن مرة ويفيق أخرى فإذا أفاق عمل عمل أهل الإفاقة والعقل ثم يعاوده الصرع فيقع في التخبيط فصل وأما صرع الأخلاط فهو علة تمنع الأعضاء التنفيسة عن الأفعال والحركة والانتصاب منعا غير تام وسببه خلط غليظ لزج يسد منافذ بطون الدماغ سدة غير تامة فيمتنع نفوذ الحس والحركة فيه وفي الأعضاء نفوذا ما من غير انقطاع بالكلية وقد يكون لأسباب آخر كريح غليظ يحتبس في منافذ الروح أو بخار

ردىء يرتفع إليه من بعض الأعضاء أو كيفية لاذعة فينقبض الدماغ لدفع المؤذي فيتبعه تشنج في جميع الأعضاء ولا يمكن أن يبقى الإنسان معه منتصبا بل يسقط ويظهر في فيه الزبد غالبا وهذه العلة تعد من جملة الأمراض الحادثة باعبتار وقت وجوده المؤلم خاصة وقد تعد من جملة الأمراض المزمنة باعتبار طول مكثها وعشر برئها لا سيما إن جاوز في السن خمسا وعشرين سنة وهذه العلة في دماغه وخاصة في جوهره فإن صرع هؤلاء يكون لازما قال أبقراط إن الصرع يبقى في هؤلاء حتى يموتوا إذا عرف هذا فهذه المرأة التي جاء الحديث أنها كانت تصرع وتنكشف يجوز أن يكون صرعها من هذا النوع فوعدها النبي صلى الله عليه وسلم الجنة بصبرها علىهذا المرض ودعا لها أن لا تنكشف وخيرها بين الصبر والجنة وبين الدعاء لها بالشفاء من غير ضمان فاختارت الصبر والجنة وفي ذلك دليل على جواز ترك المعالجة والتداوي وأن علاج الأرواح بالدعوات والتوجه إلى الله يفعل مالا يناله علاج الأطباء وأن تأثيره وفعله وتأثر الطبيعة عنه وانفعالها أعظم من تأثير الأدوية البدنية وانفعال الطبيعة عنها وقد جربنا هذا مرارا نحن وغيرنا وعقلاء الأطباء معترفون بأن في فعل القوي النفسية وانفعالاتها في شفاء الأمراض عجائب وما على الصناعة الطبية أضر من زنادقة القوم وسفلتهم وجهالهم والظاهر أن صرع هذه المرأة كان من هذا النوع ويجوز أن يكون من جهة الأرواح ويكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خيرها بين الصبر على ذلك مع الجنة وبين الدعاء لها بالشفاء فاختارت الصبر والستر والله أعلم



No comments: