Friday, August 29, 2008

في تضمين من طب الناس وهو جاهل بالطب


فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في تضمين من طب الناس وهو جاهل بالطب

روى أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من تطبب ولم يعلم منه الطب قبل ذلك فهو ضامن هذا الحديث يتعلق به ثلاثة أمور أمر لغوي وأمر فقهى وأمر طبي فأما اللغوي فالطب بكسر الطاء في لغة العرب يقال على معان منها الإصلاح يقال طببته إذا أصلحته ويقال له طب بالأمور أي لطف وسياسة قال الشاعر وإذاتغير من تميم أمرها كنت الطبيب لها برأي ثاقب ومنها الحذق قال الجوهري كل حاذق طبيب عند العرب قال أبو عبيد أصل الطب الحذق بالأشياء والمهارة بها يقال للرجل طب وطبيب إذا كان كذلك

وإن كان في غير علاج المريض وقال غيره رجل طبيب أي حاذق سمى طبيبا لحذقه وفطنته قال علقمة فإن تسألوني بالنساء فإنني خبير بأدواء النساء طبيب إذا شاب رأس المرء أو قل ماله فليس له في ودهن نصيب وقال عنترة أن تغدفي دوني القناع فإنني طب بأخذ الفارس المستلم أي إن ترخي عني قناعك وتستري وجهك رغبة عني فإني خبير حاذق بأخذ الفارس الذي قد لبس لأمة حربه ومنها العادة يقال ليس ذلك بطبي أي عادتي قال فروة بن مسيك فما إن طبنا جبن ولكن منايانا ودولة آخرينا وقال أحمد بن الحسين وما التيه طبي فيهم غير أنني بغيض إلى الجاهل المتغافل ومنها السحر يقال رجل مطبوب أي مسحور وفي الصحيح من حديث عائشة لما سحرت يهود رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلس الملكان عند رأسه وعند رجليه فقال أحدهما ما بال الرجل قال الاخر مطبوب قال من طبه قال فلان اليهودي قال أبو عبيدة إنما قالوا للمسحور مطبوب لأنهم كنوا بالطب عن السحر كما كنوا عن اللديغ فقالوا سليم تفاؤلا بالسلامة وكما كنوا بالمفازة عن الفلاة المهلكة التي لا ماء فيها فقالوا مفازة تفاؤلا بالفوز من الهلاك ويقال الطب لنفس الدواء قال ابن أبي الأسلت إلا من مبلغ حسان عني أسحر كان طبك أم جنون

وأما قول الحماسي فإن كنت مطبوبا فلا زلت هكذا وإن كنت مسحورا فلا بريء السحر فإنه أراد المطبوب الذي قد سحر وأراد بالمسحور العليل بالمرض قال الجوهري ويقال للعليل مسحور وأنشد البيت ومعناه إن كان هذا الذي قد عراني منك ومن حبك أسأل الله دوامه ولا أريد زواله سواء كان سحرا أو مرضا والطب مثلث الطاء فالمفتوح الطاء هو العالم بالأمور وكذلك الطبيب يقال له طب ايضا والطب بكسر الطاء فعل الطبيب والطب بضم الطاء اسم موضع قاله ابن السكيت وأنشد فقلت هل انهلتم بطب ركابكم بجائزة الماء التي طاب طيبها وقوله صلى الله عليه وسلم من تطبب ولم يقل من طب لأن لفظ التفعل يدل على تكلف الشيء والدخول فيه بعسر وكلفة وأنه ليس من أهله كتحلم وتشجع وصبر ونظائرها وكذلك بنوا تكلف على هذا الوزن قال الشاعر وقيس عيلان ومن تقيسا وأما الأمر الشرعي فإيجاب الضمان على الطبيب الجاهل فإذا تعاطى علم الطب وعمله ولم يتقدم له به معرفة فقد هجم بجهله على إتلاف الأنفس وأقدم بالتهور على مالم يعلمه فيكون قد غرر بالعليل فيلزمه الضمان لذلك وهذا إجماع من أهل العلم قال الخطابي لا أعلم خلافا في أن المعالج إذا تعدى فتلف المريض كان ضمانا والمتعاطي علما أو عملا لا يعرفه متعد فإذا تولد من فعله التلف ضمن الدية وسقط عنه القود لأنه لا يستبد بذلك بدون إذن المريض وجناية المتطبب في قول عامة الفقهاء على عاقلته قلت الأقسام خمسة أحدها طبيب حاذق أعطى الصنعة حقها ولم تجن يده

فتولد من فعله المأذون من جهة الشارع ومن جهة من يطبه تلف العضو أو النفس أو ذهاب صفة فهذا لا ضمان عليه اتفاقا فإنها سراية مأذون فيه وهذا كما إذا ختن الصبي في وقت وسنه قابل للختان وأعطى الصنعة حقها فتلف العضو أو الصبي لم يضمن وكذلك إذا بط من عاقل أو غيره ما ينبغي بطه في وقته على الوجه الذي ينبغي فتلف به لم يضمن وهكذا سراية كل مأذون فيه لم يتعد الفاعل في سببها كسراية الحد بالاتفاق وسراية القصاص عند الجمهور خلافا لأبي حنيفة رحمه الله في إيجابه للضمان بها وسراية التعزير وضرب الرجل امرأته والمعلم الصبي والمستأجر الدابة خلافا لأبي حنيفة والشافعي رحمهما الله في إيجابهما الضمان في ذلك واستثنى الشافعي رحمه الله ضرب الدابة وقاعدة الباب إجماعا ونزاعا أن سراية الجناية مضمونة بالاتفاق وسراية الواجب مهدورة بالاتفاق وما بينهما ففيه النزاع فأبو حنيف رحمه الله أوجب ضمانه مطلقا وأحمد ومالك رحمهما الله أهدرا ضمانه وفرق الشافعي رحمه الله بين المقدر فأهدر ضمانه وبين غير المقدر فأوجب ضمانه فأبو حنيفة رحمه الله نظر إلى أن الإذن في الفعل إنما وقع مشروطا بالسلامة وأحمد ومالك رحمهما الله نظرا إلى أن الإذن أسقط الضمان والشافعي رحمه الله نظر إلى أن المقدر لا يمكن النقصان منه فهو بمنزلة النص وأما غير المقدر كالتعزيرات والتأديبات فاجتهادية فإذا تلف بهما ضمن لأنه في مظنة العدوان فصل القسم الثاني متطبب جاهل باشرت يده من يطبه فتلف به فهذا إن علم المجني عليه أنه جاهل لاعلم له وأذن له في طبه لم يضمن ولا يخالف هذه الصورة ظاهر الحديث فإن السياق وقوة الكلام يدل على أنه غر العليل وأوهمه أنه طبيب وليس كذلك

وإن ظن المريض أنه طبيب وأذن له في طبه لأجل معرفته ضمن الطبيب ما جنت يده وكذلك إن وصف له دواء يستعمله والليل يظن أنه وصفه لمعرفته وحذقه فتلف به ضمنه والحديث ظاهر فيه أو صريح فصل القسم الثالث طبيب حاذق أذن له وأعطى الصنعة حقها لكنه أخطأت يده وتعدت إلى عضو صحيح فأتلفه مثل أن سبقت يد الخائن إلى الكمرة فهذا يضمن لأنها جناية خطأ ثم إن كانت الثلث فما زاد فهو على عاقلته فإن لم يكن عاقلة فهل تكون الدية في ماله أو في بيت المال على قولين هما روايتان عن أحمد وقيل إن كان الطبيب ذميا ففي ماله وإن كان مسلما ففيه الروايتان فإن لم يكن بيت المال أو تعذر تحميله فهل تسقط الدية أو تجب في مال الجاني فيه وجهان أشهرهما سقوطها فصل القسم الرابع الطبيب الحاذق الماهر بصناعته اجتهد فوصف للمريض دواء فأخطأ في اجتهاده فقتله فهذا يخرج على روايتين إحداهما أن دية المريض في بيت المال والثانية أنها على عاقلة الطبيب وقد نص عليهما الإمام أحمد في خطأالإمام والحاكم فصل القسم الخامس طبيب حاذق أعطى الصنعة حقها فقطع سلعة من رجل أو صبي أو مجنون بغير إذنه أو إذن وليه أو ختن صبيا بغير إذن وليه فتلف فقال بعض أصحابنا يضمن لأنه تولد من فعل غير مأذون فيه وإن أذن له البالغ أو ولي الصبي والمجنون لم يضمن ويحتمل أن لا يضمن مطلقا لأنه محسن وما على المحسنين من سبيل وأيضا فإنه إن كان متعديا فلا أثر لإذن الولي في أسقاط الضمان وإن لم يكن متعديا فلا وجه لضمانه

فإن قلت هو متعد عند عدم الإذن غير متعد عند الإذن قلت العدوان وعدمه إنما يرجع إلى فعله هو فلا أثر للإذن وعدمه فيه وهذا موضع نظر فصل والطبيب في هذا الحديث يتناول من يطبه بوصفه وقوله وهو الذي يخص باسم الطبائعي وبمروده وهو الكحال وبمبضعه ومراهمه وهو الجرائحي وبموساه وهو الخاتن وبريشته وهو الفاصد وبمحاجمه ومشرطه وهو الحجام وبخلعه ووصله ورباطه وهو المجبر وبمكواته وناره وهو الكواء وبقربته وهو الحاقن وسواء كان طبه لحيوان بهيم أو إنسان فاسم الطبيب يطلق لغة على هؤلاء كلهم كما تقدم وتخصيص الناس له ببعض أنواع الأطباء عرف حادث كتخصيص لفظ الدابة بما يخصها به كل قوم فصل والطبيب الحاذق هو الذي يراعى في علاجه عشرين امرا أحدها النظر في نوع المرض من أي الأمراض هو الثاني النظر في سببه من أي شيء حدث والعلة الفاعلة التي كانت سبب حدوثه ما هي الثالث قوة المريض وهل هي مقاومة للمرض أو أضعف منه فإن كانت مقاومة للمرض مستظهرة عليه تركها والمرض ولم يحرك بالدواء ساكنا الرابع مزاج البدن الطبيعي ما هو الخامس المزاج الحادث على غير المجرى الطبيعي السادس سن المريض السابع عادته الثامن الوقت الحاضر من فصول السنة وما يليق به التاسع بلد المريض وتربته العاشر حال الهواء في وقت المرض الحادي عشر النظر في الدواء المضاد لتلك العلة الثاني عشر النظر في قوة الدواء ودرجته والموازنة بينها وبين وقوة المريض

الثالث عشر أن لا يكون كل قصده إزالة تلك العلة فقط بل إزالتها على وجه يأمن معه حدوث أصعب منها فمتى كان إزالتها لا يؤمن معها حدوث علة أخرى أصعب منها ابقاها على حالها وتلطيفها هو الواجب وهذا كمرض أفواه العروق فإنه متى عولج بقطعه وحبسه خيف حدوث ما هو أصعب منه الرابع عشر أن يعالج بالأسهل فالأسهل فلا ينتقل من العلاج بالغذاء إلى الدواء إلا عند تعذره ولا ينتقل إلى الدواء المركب إلا عند تعذر الدواء البسيط فمن سعادة الطبيب علاجه بالأغذية بدل الأدوية وبالأدوية البسيطة بدل المركبة الخامس عشر أن ينظر في العلة هل هي مما يمكن علاجها أولا فإن لم يمكن علاجها حفظ صناعته وحرمته ولا يحمله الطمع على علاج لا يفيد شيئا وإن أمكن علاجها نظر هل يمكن زوالها أم لا فإن علم أنه لا يمكن زوالها نظر هل يمكن تخفيفها وتقليلها أم لا فإن لم يمكن تقليلها ورأي أن غاية الإمكان إيقافها وقطع زيادتها قصد بالعلاج ذلك وأعان القوة وأضعف المادة السادس عشر أن لا يتعرض للخلط قبل نضجه باستفراغ بل يقصد إنضاجه فإذا تم نضجه بادر إلى استفراغه السابع عشر أن يكون له خبرة باعتلال القلوب والأرواح وأدويتها وذلك أصل عظيم في علاج الأبدان فإن انفعال البدن وطبيعته عن النفس والقلب أمر مشهود والطبيب إذا كان عارفا بأمراض القلب والروح وعلاجهما كان هو الطبيب الكامل والذي لا خبرة له بذلك وإن كان حاذقا في علاج الطبيعة وأحوال البدن نصف طبيب وكل طبيب لا يداوي العليل بتفقد قلبه وصلاحه وتقوية أرواحه وقواه بالصدقة وفعل الخير والإحسان والإقبال على الله والدار الآخرة فليس بطبيب بل متطبب

قاصر ومن أعظم علاجات المرض فعل الخير والإحسان والذكر والدعاء والتضرع والابتهال إلى الله والتوبة ولهذه الأمور تأثير في دفع العلل وحصول الشفاء أعظم من الأدوية الطبيعية ولكن بحسب استعداد النفس وقبولها وعقيدتها في ذلك ونفعه الثامن عشر التلطف بالمريض والرفق به كالتلطف بالصبي التاسع عشر أن يستعمل أنواع العلاجات الطبيعية والإلهية والعلاج بالتخييل فإن لحذاق الأطباء في التخييل أمورا عجيبة لا يصل إليها الدواء فالطبيب الحاذق يستعين على المرض بكل معين العشرون وهو ملاك أمر الطبيب أن يجعل علاجه وتدبيره دائرا على ستة أركان حفظ الصحة الموجودة ورد الصحة المفقودة بحسب الإمكان وإزالة العلة أو تقليلها بحسب الإمكان واحتمال أدنى المفسدتين لإزالة أعظمهما وتفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعظمهما فعلى هذه الأصول الستة مدار العلاج وكل طبيب لا تكون هذه أخيته التي يرجع إليها فليس بطبيب والله أعلم فصل ولما كان للمرض أربعة أحوال ابتداء وصعود وانتهاء وانحطاط تعين على الطبيب مراعاة كل حال من أحوال المرض بما يناسبها ويليق بها ويستعمل في كل حال ما يجب استعماله فيها فإذا رأى في ابتداء المرض أن الطبيعة محتاجة إلى ما يحرك الفضلات ويستفرغها لنضجها بادر إليه فإن فاته تحريك الطبيعة في ابتداء المرض لعائق منع من ذلك أو لضعف القوة وعدم احتمالها للاستفراغ أو لبرودة الفصل أو لتفريط وقع فينبغي أن يحذر كل الحذر أن يفعل ذلك في صعود المرض لأنه إن فعله تحيرت الطبيعة لاشتغالها بالدواء وتخلت عن تدبير المرض ومقاومته بالكلية ومثاله أن يجيء إلى فارس مشغول بمواقعة عدوه فيشغله عنه بأمر آخر ولكن الواجب في هذه الحال أن يعين الطبيعة على حفظ القوة ما أمكنه

فإذا انتهى المرض ووقف وسكن أخذ في استفراغه واستئصال أسبابه فإذا أخذ في الانحطاط كان أولى بذلك ومثال هذا مثال العدو إذا انتهت قوته وفرغ سلاحه كان أخذه سهلا فإذا ولي وأخذ في الهرب كان أسهل أخذا وحدته وشوكته إنما هي في ابتدائه وحال استفراغه وسعة قوته فهكذا الداء والدواء سواء فصل ومن حذق الطبيب أنه حيث أمكن التدبير بالأسهل فلا يعدل إلى الأصعب ويتدرج من الأضعف إلى الأقوى إلا أن يخاف فوت القوة حينئذ فيجب أن يبتدىء بالأقوى ولا يقيم في المعالجة على حال واحدة فتألفها الطبيعة ويقل انفعالها عنه ولا تجسر على الأدوية القوية في الفصول القوية وقد تقدم أنه إذا أمكنه العلاج بالغذاء فلا يعالج بالدواء وإذا أشكل عليه المرض أحار هو أم بارد فلا يقدم حتى يتبين له ولا يجربه بما يخاف عاقبته ولا بأس بتجربته بما لا يضر أثره وإذا اجتمعت أمراض بدأ بما تخصه واحدة من ثلاث خصال أحدها أن يكون برء الآخر موقوفا على برئه كالورم والقرحة فإنه يبدأ بالورم الثاني أن يكون أحدهما سببا للآخرى كالسدة والحمى العفنة فإنه يبدأ بإزالة السبب الثالث أن يكون أحدهما أهم من الاخر كالحاد والمزمن فيبدأ بالحاد ومع هذا فلا يغفل عن الآخر وأذا اجتمع المرض والعرض بدأ بالمرض إلا أن يكون العرض أقوى كالقولنج فيسكن الوجع أولا ثم يعالج السدة وإذا أمكنه أن يعتاض عن المعالجة بالاستفراغ بالجوع أو الصوم أو النوم لم يستفرغه كل صحة أراد حفظها حفظها بالمثل أو الشبه وإن أراد نقلها إلى ما هو أفضل منها نقلها بالضد



No comments: