فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج يبس الطبع واحتياجه إلى ما يمشيه ويلينه
روى الترمذي في جامعه وابن ماجه في سننه من حديث أسماء بنت عميس قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بماذا كنت تستمشين قالت بالشبرمقال حار جار ثم قالت استمشيت بالسنا فقال لو كان شيء يشفى من الموت لكان السنا وفي سنن ابن ماجه عن إبراهيم بن أبي عبلة قال سمعت عبد الله بن أم حرام وكان مما صلىمع رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلتين يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عليكم بالسنا والسنوت فإن فيهما شفاء من كل داء إلا السام قيل يا رسول الله وما السام قال الموت قوله بم تستمشين أي تليين الطبع حتى يمشي ولا يصير بمنزلة الواقف فيؤذي باحتباس النجو ولهذا سمى الدواء المسهل مشيا على وزن فعيل وقيل لأن المسهول يكثر المشي والاختلاف للحاجة وقد روى بماذا تستشفين فقالت بالشبرم وهو من جملة الأدوية اليتوعية وهو قشر عرق شجرة وهو حار يابس في الدرجة الرابعة وأجوده المائل إلى الحمرة الخفيف الرقيق الذي يشبه الجلد الملفوف وبالجملة فهو من الأدوية التي أوصى الأطباء بترك استعمالها لخطرها وفرط إسهالها وقوله صلى الله عليه وسلم حار جار ويروى حار يار قال أبو عيبدة
وأكثر كلامهم بالياء قلت وفيه قولان أحدهما أن الحار الجار بالجيم الشديد الإسهال فوصفه بالحرارة وشدة الإسهال وكذلك هو قاله أبو حنيفة الدينوري والثاني وهو الصواب أن هذا من الإتباع الذي يقصد به تأكيد الأول ويكون بين التأكيد اللفظي والمعنوي ولهذا يراعون فيه إتباعه في أكثر حروفه كقولهم حسن بسن أي كامل الحسن وقولهم حسن قسن بالقاف ومنه شيطان ليطان وحار جار مع أن في الجار معنى آخر وهو الذي يجر الشيء الذي يصيبه من شدة حرارته وجذبه له كأنه ينزعه ويسلخه ويار إما لغة في جار كقولهم صهري وصهريج والصهارى والصهاريج وإما إتباع مستقل وأماالسناء ففيه لغتان المد والقصر وهو نبت حجازي أفضله المكي وهو دواء شريف مأمون الغائلة قريب من الاعتدال حار يابس في الدرجة الأولى يسهل الصفراء والسوداء ويقوى جرم القلب وهذه فضيلة شريفة فيه وخاصيته النفع من الوسواس السوداوي ومن الشقاق العارض في البدن ويفتح العضل وانتشار الشعر ومن القمل والصداع العتيق والجرب والبثور والحكة والصرع وشرب مائه مطبوخا أصلح من شربه مدقوقا ومقدار الشربة منه إلى ثلاث دراهم ومن مائه إلى خمسة دراهم وإن طبخ معه شيء من زهر البنفسج والزبيب الأحمر المنزع العجم كأن أصلح قال الرازي السنا والشاهترج يسهلان الأخلاط والمحترقة وينفعان من الجرب والحسكة والشربة من كل واحد منهما من أربعة دراهم إلى سبعة دراهم وأما السنوت ففيه ثمانية أقوال أحدها أنه العسل والثاني أنه رب عكة السمن يخرج خططا سوداء على السمن حكاهما عمر بن بكر السكسكي الثالث أنه حب يشبه الكمون ولبس به قاله ابن الأعرابي الرابع أنه الكمون
الكرماني الخامس أنه الرازيانج حكاهما أبو حنيفة الدينوري عن بعض الأعراب السادس أنه الشبت السابع انه التمر حكاهما أبو بكر بن السني الحافظ الثامن أنه العسل الذي يكون في زقاق السمن حكاه عبد اللطيف البغدادي قال بعض الأطباء وهذا أجدر بالمعنى وأقرب إلى الصواب أي يخلط السناء مدقوقا بالعسل المخالط للسمن ثم يلعق فيكون أصلح من استعماله مفردا لما في العسل والسمن من إصلاح السنا وإعانته على الإسهال والله أعلم وقد روى الترمذي وغيره من حديث ابن عباس يرفعه إن خير ما تداويتم به السعوط واللدود والحجامة والمشي المشي هو الذي يمشي الطبع ويلينه ويسهل خروج الخارج
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج حكة الجسم وما يولد القمل
جاء في الصحيحين من حديث قتادة عن أنس بن مالك قال رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام رضي الله تعالى عنهما في لبس الحرير لحكة كانت بهما وفي رواوية أن عبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام رضي الله تعالى عنهما شكوا القمل إلى النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة لهما فرخص لهما في قمص الحرير ورأيته عليهما هذا الحديث يتعلق به أمران أحدهما فقهى والآخر طبي
فأما الفقهي فالذي استقرت عليه سنته صلى الله عليه وسلم أباحه الحرير للنساء مطلقا وتحريمه على الرجال إلا لحاجة أو مصلحة راجحة فالحاجة إما من شدة البرد ولا يجد غيره أو لا يجد ستره سواه ومنها إلباسه للحرب والمرض والحكة وكثرة القمل كما دل عليه حديث أنس هذا الصحيح والجواز أصح الروايتين عن الإمام أحمد وأصح قول الشافعي إذ الأصل عدم التخصيص والرخصة إذا ثبتت في حق بعض الأمة لمعنى تعدت إلى كل من وجد فيه ذلك المعنى إذ الحكم يعم بعموم سببه ومن منع منه قال أحاديث التحريم عامة وأحاديث الرخصة يحتمل اختصاصها بعبد الرحمن بن عوف والزبير ويحتمل تعديها إلى غيرهما وإذا احتمل الأمران كان الأخذ بالعموم أولى ولهذا قال بعض الرواة في هذا الحديث فلا أدري أبلغت الرخصة من بعدهما أم لا والصحيح عموم الرخصة فإنه عرف خطاب الشرع في ذلك ما لم يصرح بالتخصيص وعدم إلحاق غير من رخص له أولا به كقوله لأبي بردة تجزيك ولن تجزي عن أحد بعدك وكقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في نكاح من وهبت نفسها له خالصة لك من دون المؤمنين وتحريم الحرير إنما كان سدا للذريعة ولهذا أبيح للنساء وللحاجة والمصلحة الراجحة وهذه قاعدة ماحرم لسد الذرائع فإنه يباح عند الحاجة والمصلحة الراجحة كما حرم النظر سدا لذريعة الفعل وأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة والمصلحة الراجحة وكما حرم التنفل بالصلاة في أوقات النهي سدا لذريعة المشابهة الصورية بعباد الشمس وأبيحت للمصلحة الراجحة وكما حرم ربا الفضل
سدا لذريعة ربا النسيئة وأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة من العرايا وقد أشبعنا الكلام فيما يحل ويحرم من لباس الحرير في كتاب التحبير لما يحل ويحرم من لباس الحرير فصل وأما الأمر الطبي فهو ان الحرير من الأدوية المتخذة من الحيوان ولذلك يعد في الأدوية الحيوانية لأن مخرجه من الحيوان وهو كثير المنافع جليل الموقع ومن خاصيته تقوية القلب وتفريحه والنفع من كثير من أمراضه ومن غلبة المرة السوداء والأدواء الحادثة عنها وهو مقو للبصر إذا اكتحل به والخام منه وهو المستعمل في صناعة الطب حار يابس في الدرجة الأولى وقيل حار رطب فيها وقيل معتدل في صناعة الطب وإذا اتخذ منه ملبوس كان معتدل الحرارة في مزاجه مسخنا للبدن وربما برد البدن بتسمينه إياه قال الرازي الإبريسم أسخن من الكتان وأبرد من القطن يربى اللحم وكل لباس خشن فإنه يهزل ويصلب البشرة وبالعكس قلت والملابس ثلاثة أقسام قسم يسخن البدن ويدفئه وقسم يدفئه ولا يسخنه وقسم لا يسخنه ولا يدفئه ليس هناك ما يسخنه ولا يدفئه إذ ما يسخنه فهو أولى بتدفئته فملابس الأوباء والأصواف تسخن وتدفى وملابس الكتان والحرير والقطن تدفى ولا تسخن فثياب الكتان باردة يابسة وثياب الصوف حارة يابسة وثياب القطن معتدلة الحرارة وثياب الحرير ألين من القطن وأقل حرارة منه قال صاحب المنهاج ولبسه لا يسخن كالقطن بل هو معتدل وكل لباس أملس صقيل فإنه أقل إسخانا للبدن وأقل عونا في تحلل ما يتحلل منه وأحرى أن يلبس في الصيف وفي البلاد الحارة
ولما كانت ثياب الحرير كذلك ولبس فيها شيء من اليبس والخشونة والكائنتين في غيرها صارت نافعة من الحكة إذ الحكة لا تكون إلا عن حرارة ويبس وخشونة فلذلك رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير وعبد الرحمن في لباس الحرير لمداواة الحكة وثياب الحرير أبعد عن تولد القمل فيها إذ كان مزاجها مخالفا لمزاج ما يتولد منه القمل وأما القسم الذي لا يدفى ولا يسخن فالمتخذ من الحديد والرصاص والخشب والتراب ونحوها فإن قيل فإذا كان لباس الحرير أعدل اللباس وأوفقه للبدن فلماذا حرمته الشريعة الكاملة الفاضلة التي أباحت الطيبات وحرمت الخبائث قيل هذا السؤال يجيب عنه كل طائفة من طوائف المسلمين بجواب فمنكروا الحكم والتعليل لما رفعت قاعدة التعليل من أصلها لم تحتج إلى جواب هذا السؤال ومثبتو التعليل والحكم وهم الأكثرون منهم من يجيب عن هذا بأن الشريعة حرمته لتصبر النفوس عنه وتتركه لله فتثاب على ذلك لا سيما ولها عوض عنه بغيره ومنهم من يجيب عنه بأنه خلق في الأصل للنساء كالحلية بالذهب فحرم على الرجال لما فيه من مفسدة تشبه الرجال بالنساء ومنهم من قال حرم لما يورثه من الفخر والخيلاء والعجب ومنهم من قال حرم لما يورثه للبدن لملاسته من الأونوثية والتخنث وضد الشهامة والرجولة فإن لبسه يكسب القلب صفة من صفات الإناث ولهذا لا تكاد تجد من يلبسه في الأكثر إلا وعلى شمائله من التخنث والتأنث والرخاوة ما لا يخفى حتى لو كان من أشهم الناس وأكثرهم فحولية ورجولية فلا بد أن ينقصه لبس
الحرير منها وإن لم يذهبها ومن غلظت طباعه وكثفت عن فهم هذا فليسلم للشارع الحكيم ولهذا كان أصح القولين أنه يحرم على الولي أن يلبسه الصبي لما ينشأ عليه من صفات أهل التأنيث وقد يروى النسائي من حديث أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله أحل لإناث أمتي الحرير والذهب وحرمه على ذكورها وفي لفظ حرم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي وأحل لإناثهم وفي صحيح البخاري عن حذيفة قال نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير والديباج وأن يجلس عليه وقال هو لهم في الدنيا ولكم في الآخرة
No comments:
Post a Comment