Friday, August 29, 2008

في الإرشاد إلى معالجة أحذق الطببين


فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الإرشاد إلى معالجة أحذق الطببين

ذكر مالك في موطئه عن زيد بن أسلم أن رجلا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم جرح فاحتقن الدم وأن الرجل دعا رجلين من بني أنمار فنظر إليه فزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما ايكما أطب فقالا أوفى الطب خير يا رسول الله فقال أنزل الدواء الذي أنزل الداء ففي هذا الحديث أنه ينبغي الاستعانة في كل علم وصناعة بأحذق من فيها فالأحذق فإنه إلى الإصابة أقرب وهكذا يجب على المستفتي أن يستعين على ما نزل به بالأعلم فالأعلم لأنه أقرب إصابة ممن هو دونه وكذلك من خفيت عليه القبلة فإنه يقلد أعلم من يجده وعلى هذا فطر الله عباده كما أن المسافر في البر والبحر إنما سكون نفسه وطمأنينته إلى أحذق الدليلين وأخبرهما وله يقصد وعليه يعتمد فقد اتفقت على هذا الشريعة والفطرة والعقل وقوله صلى الله عليه وسلم أنزل الدواء الذي أنزل الداء قد جاء مثله عنه في أحاديث كثيرة فمنها ما رواه عمرو بن دينار عن هلال بن يساف قال دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على مريض يعوده فقال ارسلوا إلى طبيب فقال قائل وأنت تقول ذلك

يا رسول الله قال نعم إن الله عز وجل لم ينزل داء إلا أنزل له دواء وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة يرفعه ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء وقد تقدم هذا الحديث وغيره واختلف في معنى إنزال الداء والدواء فقالت طائفة إنزاله إعلام العباد به وليس بشيء فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بعموم الإنزال لك لداء ودوائه وأكثر الخلق لا يعلمون ذلك ولهذا قال علمه من علمه وجهله من جهله وقالت طائفة إنزالهما خلقهما ووضعهما في الأرض كما في الحديث الآخر إن الله لم يضع داء إلا وضع له دواء وهذا وإن كان أقرب من الذي قبله فلفظه الإنزال أخص من لفظة الخلق و الوضع فلا ينبغي إسقاط خصوصية اللفظة بلا موجب وقالت طائفة إنزلهما بواسطة الملائكة الموكلين بمباشرة الخلق من داء ودواء وغير ذلك فإن الملائكة موكلة بأمر هذا العالم وأمر النوع الإنساني من حين سقوطه في رحم أمه إلى حين موته فإنزال الداء والدواء مع الملائكة وهذا أقرب من الوجهين قبلة وقالت طائفة إن عامة الأدواء والأدوية هي بواسطة إنزال الغيث من السماء الذي تتولد به الأغذية والأقوات والأدوية والأدواء وآلات ذلك كله وأسبابه ومكملاته وما كان منها من المعادن العلوية فهي تنزل من الجبال وما كان منها من الأودية والأنهار والثمار فداخل في اللفظ على طريق التغليب والأكتفاء عن الفعلين بفعل واحد يتضمنها وهو معروف من لغة العرب بل وغيرها من الأمم كقول الشاعر علفتها تبنا وماء باردا حتى غدت همالة عيناها وقال الاخر ورأيت زوجك قد غدا متقلدا سيفا ورمحا وقال الآخر وزججن الحواجب والعيونا وهذا أحسن مما قبله من الوجوه والله أعلم

وهذا من تمام حكمة الرب عز وجل وتمام ربوبيته فإنه كما ابتلى عباده بالأدواء أعانهم عليها بما يسره لهم من الأدوية وكما ابتلاهم بالذنوب أعانهم عليها بالتوبة والحسنات الماحية والمصائب المكفرة وكما ابتلاهم بالأرواح الخبيثة من الشياطين أعانهم عليها بجند من الأرواح الطيبة وهم الملائكة وكما ابتلاهم بالشهوات أعانهم على قضائها بما يسره لهم شرعا وقدرا من المشتهيات اللذيذة النافعة فما ابتلاهم سبحانه بشيء إلا أعطاهم ما يستعينون به على ذلك البلاء ويدفعونه به ويبقى التفاوت بينهم في العلم بذلك والعلم بطريق حصوله والتوصل إليه وبالله المستعان

No comments: